عائشة الفلاتية... ‏«أم كلثوم على الطريقة السودانية»

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • عائشة الفلاتية... ‏«أم كلثوم على الطريقة السودانية»

    *عائشة الفلاتية...
    ‏أم كلثوم على الطريقة السودانية*
    معاوية حسن يسن

    ‏يا لذلك الصوت الدافئ الجميل. إذا كانت للمصريين «أم كلثومهم»، وللبنانيين «فيروزهم» وللتونسيين «عُلياهم»، فإن عائشة الفلاتية، رحمها الله، هي أم كلثوم السودانيين وفيروزهم وعُلياهم. كانت من أعاجيب زمانها. لم تتعلم في مدرسة، لكنها عركت الحياة، حتى أتقنت فنونها. وخاضت نضالاً اسطورياً ضد سطوة آباء ذلك الزمان وأمهاته ومجتمعه، حتى دخلت الحياة الفنية، فاعترف بها الأصدقاء والأعداء، ونجحت في انتزاع موافقة والدها على أن تمارس الغناء. وكانت، مع أميتها، تتميز بذكاء نادر يعطيها القدرة على حفظ القصائد سماعاً. وملكت صوتاً رخيماً يعده الموسيقيون نموذجاً للصوت الكامل. ولا شك في أنه كان من أعذب الأصوات النسائية التي عرفها السودان.
    ‏اسمها عائشة موسى أحمد يحي إدريس. ولدت في كسلا - حاضرة شرق السودان نحو العام 1905، وترعرعت في أم درمان، بقعة الإمام المهدي والعاصمة الوطنية للسودان. والداها من غرب أفريقيا، ولذلك عرفت ب«الفلاتية». لم تكن شهادة الميلاد قد عرفت بعد عندما رأت عائشة الفلاتية النور لأول مرة. غير أنها قدرت عمرها في عام ١٩٧٠ ‏بما لا يقل عن 40 عاماً، لكن الحقيقة أنها ربما ولدت قبل ذلك بكثير! فقد سافرت في أول رحلة لها إلى مصر لتسجيل أغان في أسطوانات، لحساب شركة «ميشيان» للإنتاج الفني، في عام ١٩٣٦‏، فلا يعقل أن تكون فعلت ذلك وهي في السادسة من عمرها!
    بدأت حياتها الفنية في العاشرة من عمرها. تستمع وتطرب وتعجب برائدي الغناء السوداني الحاج محمد أحمد سرور وعبدالكريم عبدالله الشهير بكرومة. وكانت تشاهدهما يؤديان أغنياتهما في بيوت الأعراس (حفلات الزفاف).
    ‏لنترك الفلاتية تتحدث عن بدايتها: «كنت أمشي الحفلات مع بنات الحي، وهن فتيات وكن يجلسن على «سباته»‏، ويغني المطربون، فتتم دعوة البنات للرقص، منفردات ومثنى. كنت أجلس وسطهن وانسجم مع سرور، وأتمنى أن أصبح مثله. وشاءت الظروف أن أتعرف على حسن وجمال صوتي. فكنت أجمع بنات الحي وأمثل أمامهن دور «سرور». وكنت أحضر لحظات «السيرة»، فاستمع لكبار النساء وهن يؤدين ألحان السيرة، وكانت السيرة تتم على ظهر الخيل وكن يغنين «‏عريسنا ورد البحر وقطع جرايد النخل»‏. كنت احفظ هذه الأغاني لأرددها على مسامع بنات الحي»‏.
    ‏تقول شقيقتها جداوية موسى أحمد، التي تعد من أبكار النساء اللاتي أتقن عزف المزهر، عن بدايات الفلاتية: نشأت عائشة موسى أحمد- التي اشتهرت بالفلاتية - في حي العباسية بأم درمان. وعندما سلخت من عمرها حوالي خمسة عشر عاماً بدأت في ترديد الأغاني الشعبية السائدة في ذلك الزمن، وكانت تكتفي بالغناء في مناسبات الأهل والجيران. وعندما بدأت تسلك هذا الطريق عارضها الوالد، وهددها بحكم نزعته الدينية، ولما لم تلن لها قناة، لم تكن أمامه مندوحة سوى تزويجها. فعقد لها على رجل من المسلمية، وأمرها بالارتحال معه الى بلدته. لكنها لم تلبث أن انفصلت عن زوجها، وعادت الى حي العباسية.
    ‏وبعد فترة قررت أن تقبل فضل المولى خميس أحمد زوجاً، وارتحلت معه الى منزله في حي ديم سلمان سابقاً، وأنجبت منه ابنها الوحيد كمال فضل المولى. وبقيت تمارس الغناء. ولم تتعرض لأي مضايقات من أهلها، لأن والدها انتقل بالأسرة إلى منطقة الحلاوين، في الجزيرة، ليكون قريباً من أتباعه وشيوخه. تقول جداوية موسى أحمد: «هناك في الحلاوين استمعنا الى صوت عائشة لأول مرة مسجلاً في أسطوانة، حيث كان ينبعث من إحدى العربات التي كانت تروج لنوع من أنواع الصابون. ومن الأغاني التي كانت تحويها الأسطوانة، التي تم طبعها في مصر كما علمنا، أغنيات «غالي علي» و«يا حنوني» و«الساكن جبال التاكا».
    ‏وتضيف جداوية أن الأسرة عادت للاقامة في أم درمان في الثلاثينات، فوجدت عائشة «‏قد ذاع صيتها وملات شهرتها الآفاق»، فانصاع والدها لاختيارها، وبارك خطواتها. وبعد فترة قصيرة انفصلت عن زوجها الثاني. واقترنت بعبدالرحيم السيد وانتقلت للإقامة معه في منزله بالخرطوم بحري.
    ‏وتضيف أنه بعد أن عمت شهرة الفلاتية، اتصل بالأسرة الإذاعي صالح عبدالقادر (والد الشاعر منير صالح عبدالقادر)، ودعا الفلاتية إلى دار الإذاعة، حيث قدمت أولى أغنياتها: «أذكريني وبيني حرام عليك تنسيني». وبدأ الشعراء يتصلون بها، مثل علي محمود التنقاري، وبشير محسن، وعباس التجاني، وغيرهم. وما لبثت أن انفصلت عن زوجها الثالث وقررت أن تتزوج الفن وحده حتى مماتها. غير أن الفلاتية نفسها ذكرت أغنية غير تلك التي ذكرتها شقيقتها، باعتبارها أول عمل اقتحمت به الإذاعة بعد انتقالها إلى مبناها الحالى.
    ‏أول ملحن قدم لها ألحاناً وساعدها على تسجيل أسطوانات لأغنياتها في عام ١٩٣٦‏، قبل أن تبدأ الإذاعة السودانية بثها في 1٩٤٠، هو الموسيقار إسماعيل عبدالمعين. سمعت السيدة عائشة تخاطبه ذات مرة في أوائل السبعينات قائلة له: «واللله أنا لا أنسى إنت أستاذي، وأنك في سنة 1٩٣٦ أول من لحن لي، وعملت لي أسطوانات، وأنا لا أنس خدماتك لي في مصر ومساعدتك لي». والواقع أن عبدالمعين كان قد تولى بتكليف من الارمني ميشيان صاحب «فابريقة» ‏الأسطوانات في القاهرة مسؤولية إعداد أغنيات ملائمة للفلاتية، على نسق «التم تم»، وتدريبها على حفظها وأدائها، تمهيداً لتسجيلها.
    ‏إذن فقد كانت السيدة عائشة الفلاتية مطربة ذائعة الصيت، وعرف صوتها وغناؤها طريقهما إلى الأذن السودانية منذ ما قبل العام 1٩٣6. ففي ذلك العام صدرت لها خمس أسطوانات ( ٧٨ rpm ‏ وقدمتها للجمهور الذي لم تكن له سبيل إلى سماع الغناء إلا على جهاز «الفونونغراف» ويشير الإذاعي الباحث عوض بابكر إلى أن أسطوانات 1٩٣6 ‏ا بصوت الفلاتية، وهي رحلتها التعاقدية الأولى لمصر، وأسطوانات رحلتها الثانية لمصر في 1941، هي:
    ‏يا حنوني عليك بزيد في جنوني
    سافر حبيبي ما بنساه
    الليلة وين يا أجمل السادة
    ‏لي زمن بنادي
    أذكريني وبيني
    حبيبي ما بخلي (من شدة اعجابه بها، وحرصاً على تخليدها لئلا تضيع بانقراض الأسطوانة نظم عليها الشاعر محمد عوض الكريم القرشي أغنية «خداري ما بخلي / الأخدر لونو زرعي» / وتغنى بها الفنان عثمان الشفيع.

    ‏روح الورد شتلوكا جوة قلبي (نظم عليها الشاعر محمد عوض الكريم القرشي أغنية «الزهور والوردي/ شتلوها جوة قلبي» ‏- وتغنى بها الفنان عثمان الشفيع. وحقاً أن أغنيتي ود القرشي أبقتا هاتين الأغنيتين، فيما كان الضياع من نصيب أغنيتي الفلاتية).
    ‏أه جافاني (الربيع لاحقاً قام بتوليفها الموسيقار علاء الدين حمزه)
    جفيت النوم يصعب عليا فُراق تومي
    ‏بلالي وأذاني (تحولت في عقدٍ لاحقٍ إلى أغنية -الليلة ما جانا/ الجمعة الكان معانا يا ناس

    في الاذاعة السودانية
    ‏ذكرت الفلاتية أنها عندما دخلت الإذاعة السودانية لتقدم عملاً غنائياً كانت أولى أغنياتها «أنا بحبك يا مهذب» ‏للشاعر علي محمود التنقاري، الذي كتب لها عدداً من الاغنيات أبرزها الحبايب (عني ما لهم صدروا واتواروا/ حظي عاكس ولا هم جاروا)، التي لا تزال أغنية الحفلات والجلسات حتى يومنا هذا.
    ‏دخلت السيدة عائشة الفلاتية دار الإذاعة السودانية في نفس العام الذي أنشئت فيه (أبريل/ نيسان 1940). وكانت الإذاعة في مستهل أمرها تتخذ مقراً في غرفة صغيرة، داخل مبنى البريد (البوستة) بأم درمان. ولما لم يكن شريط التسجيل قد ظهر بعد، فقد كانت كل الفواصل الغنائية تؤدى على الهواء مباشرة!
    ‏لنعد إلى السيدة الفلاتية لتحكي لنا كيف عانت، وما لاقت قبل ان تنفتح أمامها أبواب الشهرة: «لم أسافر الى مصر إلا بعد علقة ساخنة. لم يكن مسموحاً للمرأة بالخروج من المنزل إلا لدار فرح أو العزاء في مأتم. وقد وجدت مشقات كثيرة من ناحية أمي وأبي، ولكن الحمد لله عمي أقنعهما، فأخذني الخواجة (ميشيان) إلى مصر، وسجلت هناك أسطوانات، والخواجة هو صاحب شركة ميشيان. وكان وكيل الأسطوانات ديمتري البازار في الخرطوم».
    ‏ويقول عبدالمعين - وقد كان يدللها تصغيراً فيناديها «عشوشة»: ‏لما زارتنا عائشة في مصر لم يكن والدها راضياً بذلك، وقد تعهد الخواجة ميشيان بالمحافظة عليها أمام والدها. ولما ‏وصلت إلى مصر استدعاني الخواجة ميشيان. وهناك قابلت عائشة، وقد رفض ميشيان أن ينزلها في فندق، احتراماً لعهده لوالدها. لذلك خصص لها مكاناً محترماً داخل منزله. وعملت لها على إيقاع التم تم اغنية «يا حنوني عليك بزيد في جنوني». واختبرت صوتها فوجدته أكثر تعمقاً، وروعة، ونضجاً ووجدته -أي صوتها- لا يلم بأنصاف «التون» المعدومة فيه. وقد كانت صغيرة وجاءتني في المعهد (الكونسرفاتوار) تركب على حنطور، ترتدي ثوباً أبيض، وبكامل زينتها السودانية التقليدية».
    وكانت السيدة عائشة من سيدات المجتمع الراقيات، على قلة تعليمها وثقافتها. فقد كانت تسمع ألحانها قبل تسجيلها للخبير الزراعي بشير عبدالرحمن الشاعر الغنائي المعروف، شاعر أغنية «بنت النيل» (تغنى بها الفنان أحمد المصطفى)، والصحافي أحمد يوسف هاشم الشهير بأبي الصحف، فيبديان رأيهما في ما تغني ويشاركان بخبرتها في تعديل الكلمات والأوزان.
    ‏وتتحدث شقيقتها جداوية عن الجانب الفني من حياة الفلاتية، قائلة: «كان عدد من العازفين والمطربين القدامى يهبون وقتهم للفلاتية لتلحين أغنياتها وتحفيظها الألحان في منزلها، منهم الفنان حسن درار، وعثمان بركية، وفرح جيش وأحمد زاهر». ومن واقع تلك الجلسات ‏المنزلية استطاعت جداوية موسى أن تتعلم عزف العود وتتقنه. وصارت تلازم أختها في حفلاتها وتسجيلاتها في الاذاعة، حتى تم تعيينها ضمن عازفي فرقة الإذاعة خلال الفترة من 1953 الى 1960.
    وفي 1960 ‏اكتشف الأطباء أن الفلاتة مصابة بداء السكر. بدأ انتاجها يتضاءل. وأخذت تحتجب عن الحفلات العامة، وتكتفي بتسجيل أغنيات جديدة للإذاعة. وفي ١٩٦٩ ‏نقلت إلى مستشفى أم درمان حيث بترت يدها اليسرى. وسافرت إلى القاهرة لمواصلة العلاج. وعندما عادت إلى السودان سجلت للإذاعة في 1971 ‏نشيد «النميري عاد جيد لي»، وصادف ذلك نجاح الرئيس جعفر نميري في دحر الانقلاب الشيوعي على حكمه. وفي 1974 نقلت عائشة الفلاتية مجدداً إلى مستشفى أم درمان، حيث بترت ساقها اليمنى. لكنها ما لبثت أن فارقت ديارنا في ٢٣ شباط / فبراير 1974.
    ولم تقعد الفلاتية عن دورها الاجتماعي والوطني فغنت للوطن وركبت الصعاب والدواب والطرق الوعرة لتصل الى الجنود السودانيين في جبهات الحرب العالمية الثانية. ومن صروحها الغنية تقديمها أغنيتها الحماسية «يجوا عايدين»، في عام 1942، وهي من نظمها وتلحينها. وتقول الفلاتية إن الفنانتين فاطمة خميس ورابحة سبقتاها في دخول مجال الطرب، لكنهما لم تصبرا على مشاق الحياة الفنية، ولم تستطيعا المواكبة، فقعدتا. وتقول إن فاطمة الناوة وأم الحسن الشايقية سبقتاها أيضاً. لكنها تذكر جيداً أنها حين طرقت دروب الفن الغنائي كان المطرب يوصف لدى عامة السودانيين المحافظين بأنه «صائع»، أي صعلوك.
    ‏وحين طرقت عائشة الفلاتية باب الغناء كان الغناء النسائي السائد على المستوى الشعبي من شاكلة «يا سيد الكرافتة حبك حماني النوم»‏، وغير ذلك من الغناء المتهتك والركيك. فلم تنزل - على قلة حيلتها من ناحية التعليم والثقافة - إلى ذلك المستوى، بل طرقت أفاقاً أرحب لغزلٍ راقٍ ومعانٍ سامية ونبيلة، فغنت:
    ‏ود الأريل
    ‏الساكن جبال التاكا
    مضناك ساكن في مصر
    ما بنساكا
    وغنت:
    يا بلال يا محبوبي أنا
    حليل محبوبي انا
    وغنت:
    ‏انت صورة ولا «باشملاك»
    يا بلال زورني مرة
    ‏وبعد عودتها الى السودان واصلت إبداعها واعتناءها برصين الشعر ونبيل الغزل. وكانت تقوم برحلات فنية إلى دول افريقيا الغربية. وظلت تزور مصر من حين لآخر لتسجيل أغنياتها لإذاعة ركن السودان التي تعرف حالياً بإذاعة وادي النيل. ‏والسودانيون معروفون منذ القدم بكرمهم ونبلهم وأصالتهم وقد كانت بلادهم - وما تزال - جسراً يربط بين افريقيا السوداء والعالم العربي الذي يعني بالنسبة للأفارقة الحج الى بيت الله الحرام في مكة المكرمة. فكانت وفود الحجيج النيجيريين تعبر السردان قاصدة مكة المكرمة، ولعناء الرحلة كان بعضهم يفضل الاستقرار في السودان قبل إكمال الرحلة أو بعد الحج. ولا يزال السودانيون يعرفون قبائل الهوسا التي تعيش في مجتمعات المدن والقرى السودانية باسم الفلاتة.
    ‏عن أصل تسيتها بالفلاتية تقول السيدة عائشة الفلاتية: «‏هذه هي القبائل. فقد كان كل شخص في الزمان الماضي معتزاً بقبيلته. وفي الوقت الحاضر الفرد منا سوداني أياً كانت قبيلته.
    وكنا في الماضي ينتسب كل منا الى قبيلته، فهذا جعلي، وذاك شايقي، وهكذا، وعندما ذهبت إلى مصر أصررت على الاشتهار باسم قبيلتي. لكن اسمي الحقيقي هو عائشمة موسى أحمد».
    ‏وكانت الفلاتية نفسها شاعرة، وان كانت تحاول إخفاء ذلك لعدم ثقتها في نظمها. فقد انقلبت سيارة كانت تحمل جنوداً في عام 1940وبرفقتهم عائشة الفلاتية في طريقها إلى شرق السودان، قاصدة مدينة أسمرا عاصمة إريتريا. فأوحى لها ذلك الموقف بأغنية «يجوا عايدين»... وكان يرافقها في تلك الرحلة العسكرية العازفون أحد حامد النقر، وبدر التهامي، وعلي مكي، الذين أرغموا على ارتداء الزي العسكري لقوة دفاع السودان.
    ‏وأشهر أغانيها من تأليفها «الله لي يا الليمون سلامة برية»:
    الله ليا في البر دبابات
    ‏الله ليا في البحر غواصات
    الله ليا في الجو طيارات
    مدمرة
    ‏وقد أنكرت الفلاتية ان تكون قد نظمت ضمن هذه الأغنيات الأبيات الشهيرة التالية
    يا هتلر الناموسة
    ‏موسوليني يا الدبوسة
    ‏الانكليز بفلوسها
    ‏تهجم عليك بجيوشها
    ‏وقالت إن الأغنية لقيت رواجاً كبيراً وصادفت قبولاً عاماً، ولذلك فقد أخذت كل من تؤديها تضيف إليها من عندها ما يروقها من كلمات. وتقول: «نحن ما كنا بنغني للجيش الإنكليزي ولا الألمان. نغني للجيش السوداني فقط».
    ‏وتنكر الفلاتية أيضاً أن تكون القصة الشهيرة عن زميلها المطرب إبراهيم الكاشف بدرت عنها. فقد قيل إنها زارت عمر في الخمسينات مع زميلها المرحوم الكاشف، فلما سئلت عما إذا كانت قد تلقت تعليماً، أجابت: «والله أنا وأخوي الكاشف ده لا بنعرف نقرأ ولا نكتب»‏! وزعم أن ذلك كان سبب خصومة طويلة بينها وبين الكاشف. تقول عائشة: «‏لم يحدث ذلك مطلقاً. صحيح مصر حبيبتنا وجارتنا، ولكن لا يمكن أن أرتكب خطأ بحق زميلي في غربة عن أهلنا. لم يحدث ذلك مطلقاً»‏.
    ‏وقد عاصرت السيدة الفلاتية فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية التي شهدت انتهاء مرحلة «حقيبة الفن» وظهور ما اصطلح على تسميته «الأغنية الحديثة» بما يميزها من تخت موسيقي وما إلى ذلك. وعاشت وشهدت ميلاد الأغنيات التي يعرفها السودانيون باسم «التم تم» على أيدي التوأم «‏أم بشائر وأم زوائد»‏، وها من فتيات مدينة كوستي التي تقع على النيل الأبيض في أواسط السودان. وجايلت في أم درمان «رابحة التم تم» رائدة الغناء لهذا اللون في عاصمة السودان الوطنية. وتقول الفلاتية إن الأخيرة اقتبست الكثير من أغنيات «فتيات كوستي». وقد غنت عائشة من هذا اللون الكثير من الأغنيات. وتعتقد أن «فتيات كوستي» هما اللتان ابتكرتا الغناء على إيقاع «التم تم».
    ‏والواقع أن نشأة هذا الفن الغنائي الايقاعي ارتبطت بالأحياء الفقيرة والمحبطة من العدم والظلام، خصوصاً مجتمعات المرأة في أحياء الجنود الذين سرحوا بعد أن وضعت الحرب العالمية أوزارها (الرديف RDF). والحقيقة أن ثمة إيقاعاً غربياً شهيراً هو tam-tam)، وهناك Tom-tom)). والأرجح أن جنودنا الذين سرحوا من قوة دفاع السودان، انتقلوا الى أحياء «الرديف» التي خصصت لهم في كل مدن البلاد، نقلوا معهم من على أفواه الجنود البريطانيين حتى الأغنيات الخاصة التي يصيغونها من وحي لحظات الانتشاء بالنفس والظفر، على سجيتهم ... كتلك الاغنية التي تتردد فيها لفظة فكك .. فكك ...
    فهي من Friday good feeling day‏.
    ‏وأحسب أن فتياتنا السودانيات في تلك الأحياء الفقيرة حفظن الإيقاع، ونجحن في سودنته من خلال «الدلوكة» والألحان البسيطة التي لاءمته، وفتحت له الباب عريضاً ليستولي على شغاف القلوب، ويأسر الوجدان.
    ‏ببساطة بنات البلد، كانت الفلاتية ترى أن «الفن ما حاجة سهلة، ومشكلته كبيرة... والفن عايز فراغ واجتهاد... عشان الواحد يصل لمرحلة عظيمة ومحترمة. المادة ما كل شيء، ولا بتقضي غرض، نحن كافحنا مجاناً، ولم نكن ننتظر قرشاً أو قرشين... والمفروض الفنانين يشتركوا في المنافسات والمسابقات بدون نظرة للقروش».
    ‏وقد كانت السيدة عائشة مكثرة في إنتاجها في أوائل وأواسط حياتها الفنية.لكنها أضحت مقلة في الأعوام القليلة التي سبقت وفاتها. وكانت تبرز ذلك بقولها: «كل مرة أسجل أغنية جديدة؟ ما بقدر. في السنة أعمل أغنية واحدة. فأنا عيانة وعندي سكري، وخدمت كثيراً بما فيه ‏الكفاية... والكبر حصل».
    ‏وكانت عندما تسأل عن أسباب توقف زملائها من كبار الفنانين السودانيين عن مواصلة الإنتاج الجديد» تقول بسماحتها المعهودة وبساطتها: «والله دي حاجات بتخصهم في شخصيتهم»!
    من العلامات البارزة في حياة عاثشة الفلاتية تعاونها مع المطرب الفنان التاج مصطفى الذي لحن لها أغنية «الحبايب» ‏(عني ما لهم صدوا واتواروا).
    ‏كنا في مستهل هذه الكلمة قد أتينا على ذكر أم كلثوم، وقلنا إن السودانيين كانوا يلقبون عائشة الفلاتية بأم كلثوم السودان. شاءت الصدف أن لا تجمع بين الراحلتين العظيمتين. فقد أبدت السيدة ام كلثوم رغبتها في زيارة السيدة عائشة الفلاتية خلال زيارتها للسودان فيعام 1967، وكانت الأخيرة طريحة السرير الأبيض بمستشفى الخرطوم. وقالت عائشة إنها قبلت عذر السيدة أم كلثوم، وأبرقتها من المستشفى عبر نقابة الفنانين السودانيين شاكرة اهتمامها بها، وحرصها على تحديد موعد لزيارتها. وعندما زارت عاثشة القاهرة لتسجيل بعض أعمالها لإذاعة ركن السودان اتصلت بالسيدة أم كلثوم على رقم هاتفها الشهير (٨٨٨٨‏)، وتحدثت معها طويلاً، لكن ظروفاً طارئة اقتضت سفر كوكب الشرق إلى الإسكندرية فحالت دون لقاء السيدتين العظيمتين مرة أخرى. وبعد عودة السيدة أم كلثوم إلى القاهرة من الإسكندرية اقتضت ظروفها أن تسافر بعد يومين من عودتها إلى خارج مصر. وكانت السيدة الفلاتية تقول عندما تسأل عما إذا كانت قد حاولت الاتصال بمطربات أخريات في مصر: «أبداً ما حاولت... هن مشغولات وأنا مشغولة... وأنا طبعاً بمشي مصر للسياحة والفسحة وما بيكون عندي زمن للقاءات».
    ‏وكانت - رحمها الله - تسكن إلى الأغنيات القصيرة، ولا تقرب الطويلة، إلا إذا ضمنت أن موسيقاها جيدة، وأنها يمكن أن تؤديها بصورة ممتازة. وكانت تعد التغني بالأغنيات القصيرة من رغبة الجيل الجديد. ولهذا فقد كانت لا تبدي امتعاضها - وان لم تكن متحمسة - من أغنيات الجاز.
    ‏بعد كفاح مرير وقاس مع داء السكر أفقدها يداً وساقاً صعدت روح عائشة الفلاتية إلى بارئها، تاركة للسودان وللسودانيين ذكراها العطرة، وقفشاتها النادرة، وتراثها الفني الثمين، وأغنياتها التي لا تزال تطرب الأجيال المختلفة في السودان.

    مصادر الترجمة:
    - عائشة الفلاتية: برنامج «ضيف الأسبوع»: تقديم محمد سليمان، مكتبة الاذاعة الصوتية، بث العام ١٩٧0‏.
    - عائشة الفلاتية واسماعيل عبد المعين: برنامج «فنان وفنان»ء تقديم الخير عثمان، المكتبة الصوتية بالاذاعة، بث العام ١٩٧٧ ‏.
    ‏- عوض أحمدان: الفلاتية في ذكراها السادسة، مجلة الاذاعة والتلفزيون والمسرح، العدد ٢٦ ، السنة ٣٨، فبراير/شباط 1980 ، ص ٢٠ ‏- ٢٣ ‏.
    - برنامج «زمان النغم» إعداد وتقديم: عوض بابكر، إذاعة البيت السوداني، بث في ٢٥ ‏يناير/ كانون الثاني 2011‏.

    *أغنيات الفنانة عائشة الفلاتية
    المسجلة لدى مكتبة الصوت في الإذاعة السودانية*

    ‏عدد الأغنيات المسجلة: ٧٣

    ‏*من نظم الشاعر علي محمود التنقاري:*
    - «الحب» سجلت في 7/9/1959
    - «الحبايب» تلحين عائشة الفلاتية بحسب ما هو مثبت في سجلات الإذاعة. لكن الفنان التاج مصطفى يقول إنه صاحب هذا اللحن. سجلت في 12/5/1958 ونقلت في 12/5/1966
    - «حبيب الروح» تلحين عائشة الفلاتية، سجلت في 14/2/1960
    - «ذكرى» تلحين عائشة الفلاتية، سجلت في 14/2/1960
    - «رمز الجمال» تلحين عائشة الفلاتية، سجلت في 7/9/1959
    - «فلسطين» تلحين عائشة الفلاتية، سجلت في 7/9/1963
    - «لقاء» تلحين عائشة الفلاتية، سجلت في 12/5/1958، ونقلت في 16/6/1958، وفي 28/3/1959، ثم في 26/8/1959
    - «من دار الاذاعة» تلحين عائشة الفلاتية،سجلت في 12/3/1961 (نقلت في 1/1/1990)

    *من نظم الشاعر السر محمد عوض:*
    - «عيد الثورة» تلحين سيف عبدالقادر، سجلت في 16/4/1967
    - «فيك يا بلادي» تلحين سيف عبدالقادر، سجلت في 30/6/1963
    - «لحظة وداع» تلحين بشير عباس، سجلت في 25/5/1968
    - «أغنية رمضان» تلحين: لا يوجد، سجلت في 15/2/1961، ونقلت في 24/9/1969
    - «بلادي» تلحين عائشة الفلاتية، سجلت في 9/7/1961 ونقلت في 24/9/1969
    - «ثورة مايو» تلحين سيف عبدالقادر، سجلت في 14/7/1969
    - «حبيبي الغالي» تلحين عوض محمود، سجلت في 19/6/1966 ونقلت في 7/6/11967

    *من نظم الشاعر بشير محسن:*
    - «الملاك السامي» تلحين: لا يوجد، سجلت في 28/8/1957
    - «آمال» تلحين: عائشة الفلاتية، سجلت في 12/5/1958
    - «حبيب وجداني» تلحين: بشير محسن، سجلت في 10/6/1958 ونقلت في 19/6/1966

    *شعراء آخرون:*
    - «مظلومة» كلمات محمود طرنجة، تلحين: لا يوجد، سجلت في 3/9/1963
    - «فرحة الصائمين» كلمات عمر عبدالله أحمد، تلحين: برعي محمد دفع الله، سجلت في 24/2/1960 ونقلت في 28/11/1965
    - «ليه يا مرادي» كلمات وتلحين: جعفر فضل المولى التوم، سجلت في ى5/3/1958
    - «من غير وداع» كلمات عباس الزين، تلحين: لا يوجد، سجلت في 28/8/1957
    - «يا حنوني» كلمات عبدالرحمن الريح، تلحين: عائشة الفلاتية، أكد الموسيقار إسماعيل عبدالمعين أن هذه الأغنية من تلحينه في عام 1936 (سجلت في أسطوانة قديماً)، سجلت في 27/7/1969
    - «فرحة العيد»: من نظم عبدالرحمن الريح، تلحين: لا يوجد، سجلت في 3/12/1968
    ‏- «النجوم»: كلمات وتلحين عثمان حميدة (الممثل والملحن والمغني)، سجلت في 12/3/1961، ثم نقلت في 5‏/2‏/1979. ونقلت ثانية في 1/1/1990
    - «فتاة النيل»: كلمات عبد الرحيم السيد، تلحين محمد الحسن سعيد، سجلت في 12/3/1961 ونقلت في 1/1/1990
    ‏- «صباحك نور»: كلمات محمد خلف الله، تلحين عائشة الفلاتية، سجلت في 12/5/1٩٥٨ ‏ونقلت في 16/6/1958
    - «يا نسايم»: كلمات محمد خلف الله، تلحين: لا يوجد، سجلت في 30/3/1961، ونقلت في ٥‏/١٢/١٩٦٩‏، ثم نقلت في 21/3/1971
    ‏- «الدار الما داري»: كلمات محمد الحسن محمد أحمد، تلحين: عائشة الفلاتية (اللحن فولكلوري)، سجلت في 3/3/1961، ‏ونقلت في 2/9/1971.
    ‏- «الممنوح وصاله»: كلمات أحمد محمد أنس، تلحين: لا يوجد، سجلت في 5/3/1958.
    ‏- «شوق»: كلمات جعفر فضل المولى، تلحين: برعي محمد دفع الله، سجلت في 14/9/1960
    ‏- «نهضة المرأة السودانية»‏: كلمات عبدالرحيم السيد، تلحين: عائشة الفلاتية، سجلت في 13/9‏/1972.
    ‏- «يوم الإستقلال»: كلمات محمد علي أبو قطاطي، تلحين عائشة الفلاتية، سجلت في 17/3/1967، ونقلت مع خفض زمنها في 27/12/1986
    ‏وفي 21/12/1993
    ‏- «الشعب البطل»‏: كلمات محمد علي أبو قطاطي، تلحين برعي محمد دفع الله، سجلت في 24/2/1972.
    ‏- «نحن حبايب»: كلمات بكري محمود، تلحين برعي محمد دفع الله، سجلت في 15/4/1969 ونقلت في 7/5/1969.

    *أغان لا يعرف شاعرها ولا ملحنها:*
    - «طلعت القمرا» سجلت في 16/4‏/1967
    - «وداع» سجلت في 8/9‏/1960ونقلت في 11‏/2‏/1969
    - «يجو عايدين» سجلت في 11/5‏/1960
    - «الليموني» كلمات وتلحين عائشة الفلاتية سجلت في 30/9‏/1962 ونقلت في 20‏/9‏/1971
    - «جافيت النوم» سجلت في 30/6/1963‏ ونقلت في 12/4/1990
    - «زورني مرة» سجلت في 30/3/1961‏
    - «سمسم القضارف» سجلت في 17/1/1966

    ‏*من تاريخ الغناء والموسيقى في السودان
    ‏‏نجوم الغناء والطرب في السودان
يعمل...
X