ديوان الشاعر خليل عجب الدور: خواطر وانطباعات
«1-2»
بقلم د. خالد محمد فرح
::::
سعدت في صبيحة اليوم التالي لوصولي إلى الخرطوم خلال الاسبوع
الاخير من شهر نوفمبر 2005م المنصرم، بعد فترة غياب عن ارض
الوطن دامت قرابة العامين بلا انقطاع نسبة لظروف العمل خارج البلاد،
سعدت بحضور جلسة مدارسة في ديوان الشاعر والمربي الفاضل الاستاذ
خليل محمد عجب الدور الهواري، نظمها بقاعة الشارقة بجامعة الخرطوم
معهد البروفيسورعبد الله الطيب للغة العربية بذات الجامعة.
تحدث في الندوة نفر كريم من الاساتذة الاجلاء هم الدكتور أحمد محمد
البدوي، والدكتور الحبر يوسف نور الدائم، والاستاذ محمد الواثق مدير
معهد عبد الله الطيب للغة العربية، ونائبه الدكتور الصديق عمرالصديق،
والاستاذ البشير سهل جمعة وزير التربية المكلَّف حتى ذلك الحين بولاية
القضارف، والناقد المسرحي والباحث المعروف، كما تحدث - بالطبع-
المحتفى به نفسه الشاعر خليل عجب الدور، وتعاقبت كوكبة من الاساتذة
والطلاب على انشاد بضع قصائد للشاعر خلال الجلسة، بينما تولى
الدكتور سعد عبد القادر تقديم فقرات الندوة.
ولد الشاعر خليل محمد عجب الدور الهواري بمدينة القضارف، واكمل
تعليمه الاولي بمدرستها الاولية الاميرية في العام 1928م، وفقاً لما
جاء في مقتطف سيرته الذاتية المنشورة على الغلاف الخلفي لديوانه
الصادر في العام 1997م، الذي تفضل اخي الاستاذ بشير سهل
بإهدائي نسخة منه. وعلى ذلك، فان من الممكن ان يكون هذا الشاعر
قد ولد في حوالى سنة 1917م او قبلها بقليل، ويكون عمره، بناءً
على ذلك قد ناهز الآن التسعين عاماً، اطالالله بقاءه.
سمعت باسم الشاعر خليل عجب الدور لاول مرة او قرأت - لا اذكر
الآنعلى وجه الدقة- في الثمانينات من القرن الماضي، وقد ارتبط اسم
هذا الشاعر منذ تلك المرة الاولى، بابيات طريفة له في وصف عصيدة
صنعها لنفسه، وهو معتزب بالخلاء، في فيافي القضارف وسهولها
الطينية الخصبة، حيث الزراعة، زراعة المشاريع إبان فصل الخريف،
وما أدراك ما فصل الخريف في تلك النواحي، يقول خليل عجب الدور
في تلك الابيات:
ولقمة من دقيق الدخن دافئة * الذ في الطعم من قراصة الفيني
صنعتهابيدي في الصاج لينة * كأنما صنعت في دوكة الطين
مــلاحــها ويــكـة لايــوقـة وبـها * ملح قليل وفيها فص عطرون
فوقر في نفسي منذ ذلك الحين انه ربما كان هذا هو بالضبط، الشعر
السوداني النكهة والمذاق، او «السودانوي» كما يُقال هذه الايام،الذي
كان يبحث عنه الشاعر والناقد حمزة الملك طمبل منذ عشرينيات القرن
الماضي، ويحض شعراء زمانه على ان يصطنعوه، وجاء من بعده
شعراء الحداثة، وعلى رأسهم محمد المهدي المجذوب، ومن ورائه
رواد مدرسة الغابة والصحراء كي يتأسوا به وينسجوا على منواله،
على الاقل من حيث الاطار النظري العام.
بيد انني احسست في هذه الابيات -على ما فيها من روعة فنية، وسلاسة
طبع، وحسن ترسل احسست نوعاً من الهزل و«الحلمنتيشية» التي
من شأنها ان تؤثر على لغة الشعر من حيث هو فخامة في الشكل
والمضمون معاً، مما يشيب ضرورة توفر شئ من الجدية في الاغراض،
والاساليب، والالفاظ الشعرية، في غير ماحوشية متنطعة، ولا ابتذال
مسف، ألم تر كيف ان شاعرين عباسيين هما «ابن حجاج» و
«ابنسكرة الهاشمي» مثلاً، كانا مجيدين غاية الاجادة فنياً، ولكن غلبة
العبث على مواضيعهما قد اثرت سلباً على سيرورة تراثهما الشعري؟
غير ان حلمنتيشية أبيات عجب الدور المذكورة، قد جاءت عفو الخاطر،
فهي مستملحة جداً في موضعها الذي وردت فيه،كما انها لا تسم عامة
شعره.
ثم اني شهدت في اواخر التسعينات من القرن الماضي،مجلساً للعلامة
عبد الله الطيب رحمه الله، القى على مسامعنا خلاله جملة صالحة من
أشعار خليل عجب الدور بمتعة واعجاب كبيرين، ثم انه اثنى على ذلك
الشعر ثناء طيباً،وحسبك بذلك شهادة من عالم ولغوي وناقد وشاعر
ذواقة فذ.
أول ما اود ان ابدأ به هذه الخواطر والانطباعات، هو تعليق مقتضب
على لقب هذا الشاعر:«عجب الدور» وهذا الاسم العلم، هو من الاسماء
المركبة تركيباً اسنادياً، ومثل هذه الصيغة في اسماء الاعلام في
السودان، شائعة بصفة خاصة في قرى كردفان وبواديها كما لاحظت.
فمن بين تلك الاسماء بالنسبة للذكور مثلاً: فرح الدور، وفرح الصاحب،
وعجب الصاحب، وضي النور، وفرحنا، وعجبنا، وصباح النعمة،
والضواها، وضي النعيم... الخ.
وبالنسبة للإناث: ست الدور، وست ابوها، وعجبتينا، وسريتي... ألخ.
اما كلمة «الدور» التي تظهر في آخر هذا الاسم المركب، فتعني
«الفريق» او الحي من أحياء البدو الرحل. فكان معنى هذا الاسم هو ان
هذا المولود قد اعجب الحي مولده، وكلمة «الدور» السودانية هذه
تقابلها لفظاً ومعنى كلمة «الديرة» المنتشرة بكثرة في لهجات الخليج
العربي المعاصرالى يوم الناس هذا، ولفظة «الدور» تأتي ايضاً في
بعض اللهجات العربية المعاصرة مثل العامية المصرية، وحتى السودانية
كذلك، بمعنى الجيل «او الانداد والاتراب»، ومن ذلك قولهم: -
فلان ده من دورنا.. بمعنى من اترابنا او في نفس سننا.. وبهذا تكون
ست الدور و«ست الجيل» بمعنى واحد.
ويبدو ان اسرة الشاعر خليل عجب الدور تعود بأصولها الى كردفان، ولا
ينبغي ان يكون ذلك مستغرباً. ذلك بان معظم «هوارة» السودان وهي
القبيلة التي ينتمي اليها شاعرنا، انما يقطنون في كردفان. فمنهم بدو
ورعاة إبل، ومنهم مزارعون قرويون ومنهم سكان حضر، حيث يوجدون
في مدينة الابيض وغيرها من المدن الاخرى.
ويؤكد الشاعر نفسه كردفانية أصله صراحة عندما يقول في قصيدته:
-«كردفان أم الأبطال» بصفحة «76» من الديوان:
رعى الله ربى كردفان ومن بها * وباكرها غيثمن المزن هاطل
وبارك في ارض الابيض انها * مدينة خير اهلها السمرفُضَّل
هـنالك ارحام لنا واواصـر * قديمة عهد ليس بالبين تُفصل
كما صرَّح الشاعر بتلك الارومة الكردفانية مرة اخرى في قصيدته:-
«في مدح البرعي رجل الزريبة» وذلك حين يقول:
اقبل هدية شيخ شوقه لكمو * مهما تعاقبت الايام متصل
لهالقضارف سكنى والابيض مع * ود اب صفية آباء له أُول
واما ود اب صفية المذكور فهوالشيخ بدوي ود اب صفية، من اولياء
مدينة الابيض واعيانها المشهورين. نبه ذكره في عهد الحكم التركي -
المصري، حيث اسهم اسهاماً واسعاً في نشر الاسلام في جبال النوبة،
ولفرط شهرته، ارتبط عند اهل كردفان باحد امثالهم الشهيرة، وهو
قولهم: - انت قاعد في اللبيض وما بتعرف ود اب صفية؟!
وقيل إن الشيخ بدوي هو اول من قال:
«نحن قبيل شن قلنا، ما قلنا الطير بياكلنا»؟ فاطلقها مثلاً.
شرع خليل عجب الدور في نظم الشعر منذ ان كان طالباً بالمعهد العلمي
بام درمان في ثلاثينات القرن الماضي،بيد انه لم يوفق في جمع ديوان
شعره في مخطوطة واحدة، إلا في العام 1997م، وهوالديوان الذي
صدر في العام 2002م تحت عنوان: «خواطر ومشاعر» ضمن
سلسلة «إبداع المعلمين» التي تولت اصدارها وزارة التربية بولاية
القضارف، باشراف وزيرها الهمام،والمثقف الملتزم، الاستاذ البشير
سهل.
وبمناسبة الحديث عن المعهد العلمي، فقد نبَّه الاساتذة الذين تحدثوا في
الندوة، وخصوصاً الدكتور احمد محمد البدوي، على ان شعر خليل عجب
الدور، ينم عن إيمان، ونفس مطمئنة ويقين على خلاف أشعار مجايليه
بالمعهد العلمي وغيره، التي غلب على كثير منها الشك، والحيرة، وربما
التهتك والمجون في بعض الاحيان.
ثمة ملاحظة جوهرية في تقديري على شعر خليل عجب الدور، ألا وهي
انه شعر يحتفي بالزراعة أيما احتفاء حتى لربما جاز لنا ان نسميه
«شعراً زراعياً» اذا صحت هذه التسمية.
ولا يقتصر شعر خليل عجب الدور على التغني بالزراعة في مجتلاها
الجمالي، وما تبعثه خضرتها في النفوس من مشاعر البهجة والإنشراح
فحسب، وهوامر خاض فيه الشعراء قديماً وحديثاً، داخل السودان
وخارجه، إذ استوحوا من مرائيها صوراً بديعة استخدموها في وصف
المحبوبة خاصة.
فمن بين تلك التشبيهات التقليدية المستوحاة من عالم الزراعة للفتاة
البضة، الخضلة، الريانة العود في السودان مثلاً،وصفهم لها بأنها مثل:
«قصبة مدالق السيل»، يعنون القصبة من الذرة التي تتدالق السيول
على مغرسها كي تسقيها، فهي ريانة دوماً، ومخضرة ونضرة أبداً.
فشعر خليل عجب الدور يفيض بمثل هذه الصور البلاغية الجمالية
المستقاة من دنيا الزراعة، ومن ذلك قوله في قصيدة «قضروف سعد»
بصفحة 42 من الديوان ما يلي:
قضروف سعد في الخريف جمالها * حيث السهول الخضر حيث جبالها
ظهرت لنا رأد الضحى مخضرة الساحات * اثرفي القلوب جمالها
الزهر فواح الشذى هو عطرها * والعشب نضَّاح الندى سربالها
غير ان شعر خليل عجب الدور يتميز من حيث الأغراض، بصفة مميزة
هي انه يمثل مرآة صادقة تعكس ادبيات تراث الزراعة «الآلية»،
اعني زراعة المشاريع، وماتستدعيه الى الاذهان من معسكرات،
و«تايات» و«تكال» و«كنابي» للمزارعين، ووصفات الـ «بني كربو»
و«الكجيك» اي السمك المجفف، المرتبطة بمشاريع سمسم والحواتة
في شرق السودان، وهبيلا وكرتالة بجبال النوبة، والجبلين وبوط
والدمازين والرنك وملوط وغيرها بالصعيد والجنوب، وعمليات اجتثاث
الاشجار من اصولها، او ما يعرف بـ «امبحتي»، والغلا الوفيرة التي
تنتج بكميات تجارية كبيرة من محاصيل الذرة والسمسم متجاوزة أبعاد
ما يسمى الاقتصاد الكفائي Subsistence Economy، الى
آفاق النمو الانتاجي، الذي يغل فوائض كبيرة قابلة للتسويق.
وذلك هو ما يصوره الشاعر خير تصويرفي قصيدته: «قضارف الخير»
الواقعة بصفحة 40 من الديوان، حيث يقول:
قضارف الخير زاد الله نعمتها * ونج محصولها من كل آفات
تجمع الناس فيها من ابي زبدٍ * غرباً ومن كسلا شرقاً وسنكات
قد مارسوا الحرث بالوابور فامتلأت * كل المخازن من حمل السفنجات
والسفنجات -كما هو معروف في السودان حتى الى زمان قريب- هي
جمع «سفنجة»، وهي تسمية «سودانية لضرب من الشاحنات
البريطانية الصنع من طراز «بدفورد».
ومن ذلك قوله ايضاً:
وسرت مبتدراً للزرع في نفرٍ * من المساليت هم نصف الثلاثين
من كل من اسمه موسى بن ابكرٍ * ولد اساغة او موسى بن هرون
هذا هو شعر في منتهى الواقعية، الا انه يبلغ قمة الواقعية والصدق
الفني، وصدق الانتماء الاجتماعي في قصيدته «مزارع يخاطب
مزرعته» المنشورة بالصفحات 46-48 من الديوان حيث يقول:
يا حبذا كوخ البلاد الضيق * المتواضع المتراجف الميَّال
يا ساكن الكوخ الحقير معذَّباً * بالزمهرير تحوطك الاوحال
متجشما ما لايطاق من الاذى * لا شل زندك ايها المفضال
لا تزهدن هناك زادك من بني * كربوالفطير تعوسه العمال
وشرابك الماء المرنق او * منامك في الثرى وفراشك الشوال
لا تحسبن السعي منك سفاهة * فالسعي للرزق الحلال حلال
ان الزراعة وهي اشرف مهنة * والعاملون بها هم الابطال
يتــــــــــــــــــــــــــببع ~ ~
«1-2»
بقلم د. خالد محمد فرح
::::
سعدت في صبيحة اليوم التالي لوصولي إلى الخرطوم خلال الاسبوع
الاخير من شهر نوفمبر 2005م المنصرم، بعد فترة غياب عن ارض
الوطن دامت قرابة العامين بلا انقطاع نسبة لظروف العمل خارج البلاد،
سعدت بحضور جلسة مدارسة في ديوان الشاعر والمربي الفاضل الاستاذ
خليل محمد عجب الدور الهواري، نظمها بقاعة الشارقة بجامعة الخرطوم
معهد البروفيسورعبد الله الطيب للغة العربية بذات الجامعة.
تحدث في الندوة نفر كريم من الاساتذة الاجلاء هم الدكتور أحمد محمد
البدوي، والدكتور الحبر يوسف نور الدائم، والاستاذ محمد الواثق مدير
معهد عبد الله الطيب للغة العربية، ونائبه الدكتور الصديق عمرالصديق،
والاستاذ البشير سهل جمعة وزير التربية المكلَّف حتى ذلك الحين بولاية
القضارف، والناقد المسرحي والباحث المعروف، كما تحدث - بالطبع-
المحتفى به نفسه الشاعر خليل عجب الدور، وتعاقبت كوكبة من الاساتذة
والطلاب على انشاد بضع قصائد للشاعر خلال الجلسة، بينما تولى
الدكتور سعد عبد القادر تقديم فقرات الندوة.
ولد الشاعر خليل محمد عجب الدور الهواري بمدينة القضارف، واكمل
تعليمه الاولي بمدرستها الاولية الاميرية في العام 1928م، وفقاً لما
جاء في مقتطف سيرته الذاتية المنشورة على الغلاف الخلفي لديوانه
الصادر في العام 1997م، الذي تفضل اخي الاستاذ بشير سهل
بإهدائي نسخة منه. وعلى ذلك، فان من الممكن ان يكون هذا الشاعر
قد ولد في حوالى سنة 1917م او قبلها بقليل، ويكون عمره، بناءً
على ذلك قد ناهز الآن التسعين عاماً، اطالالله بقاءه.
سمعت باسم الشاعر خليل عجب الدور لاول مرة او قرأت - لا اذكر
الآنعلى وجه الدقة- في الثمانينات من القرن الماضي، وقد ارتبط اسم
هذا الشاعر منذ تلك المرة الاولى، بابيات طريفة له في وصف عصيدة
صنعها لنفسه، وهو معتزب بالخلاء، في فيافي القضارف وسهولها
الطينية الخصبة، حيث الزراعة، زراعة المشاريع إبان فصل الخريف،
وما أدراك ما فصل الخريف في تلك النواحي، يقول خليل عجب الدور
في تلك الابيات:
ولقمة من دقيق الدخن دافئة * الذ في الطعم من قراصة الفيني
صنعتهابيدي في الصاج لينة * كأنما صنعت في دوكة الطين
مــلاحــها ويــكـة لايــوقـة وبـها * ملح قليل وفيها فص عطرون
فوقر في نفسي منذ ذلك الحين انه ربما كان هذا هو بالضبط، الشعر
السوداني النكهة والمذاق، او «السودانوي» كما يُقال هذه الايام،الذي
كان يبحث عنه الشاعر والناقد حمزة الملك طمبل منذ عشرينيات القرن
الماضي، ويحض شعراء زمانه على ان يصطنعوه، وجاء من بعده
شعراء الحداثة، وعلى رأسهم محمد المهدي المجذوب، ومن ورائه
رواد مدرسة الغابة والصحراء كي يتأسوا به وينسجوا على منواله،
على الاقل من حيث الاطار النظري العام.
بيد انني احسست في هذه الابيات -على ما فيها من روعة فنية، وسلاسة
طبع، وحسن ترسل احسست نوعاً من الهزل و«الحلمنتيشية» التي
من شأنها ان تؤثر على لغة الشعر من حيث هو فخامة في الشكل
والمضمون معاً، مما يشيب ضرورة توفر شئ من الجدية في الاغراض،
والاساليب، والالفاظ الشعرية، في غير ماحوشية متنطعة، ولا ابتذال
مسف، ألم تر كيف ان شاعرين عباسيين هما «ابن حجاج» و
«ابنسكرة الهاشمي» مثلاً، كانا مجيدين غاية الاجادة فنياً، ولكن غلبة
العبث على مواضيعهما قد اثرت سلباً على سيرورة تراثهما الشعري؟
غير ان حلمنتيشية أبيات عجب الدور المذكورة، قد جاءت عفو الخاطر،
فهي مستملحة جداً في موضعها الذي وردت فيه،كما انها لا تسم عامة
شعره.
ثم اني شهدت في اواخر التسعينات من القرن الماضي،مجلساً للعلامة
عبد الله الطيب رحمه الله، القى على مسامعنا خلاله جملة صالحة من
أشعار خليل عجب الدور بمتعة واعجاب كبيرين، ثم انه اثنى على ذلك
الشعر ثناء طيباً،وحسبك بذلك شهادة من عالم ولغوي وناقد وشاعر
ذواقة فذ.
أول ما اود ان ابدأ به هذه الخواطر والانطباعات، هو تعليق مقتضب
على لقب هذا الشاعر:«عجب الدور» وهذا الاسم العلم، هو من الاسماء
المركبة تركيباً اسنادياً، ومثل هذه الصيغة في اسماء الاعلام في
السودان، شائعة بصفة خاصة في قرى كردفان وبواديها كما لاحظت.
فمن بين تلك الاسماء بالنسبة للذكور مثلاً: فرح الدور، وفرح الصاحب،
وعجب الصاحب، وضي النور، وفرحنا، وعجبنا، وصباح النعمة،
والضواها، وضي النعيم... الخ.
وبالنسبة للإناث: ست الدور، وست ابوها، وعجبتينا، وسريتي... ألخ.
اما كلمة «الدور» التي تظهر في آخر هذا الاسم المركب، فتعني
«الفريق» او الحي من أحياء البدو الرحل. فكان معنى هذا الاسم هو ان
هذا المولود قد اعجب الحي مولده، وكلمة «الدور» السودانية هذه
تقابلها لفظاً ومعنى كلمة «الديرة» المنتشرة بكثرة في لهجات الخليج
العربي المعاصرالى يوم الناس هذا، ولفظة «الدور» تأتي ايضاً في
بعض اللهجات العربية المعاصرة مثل العامية المصرية، وحتى السودانية
كذلك، بمعنى الجيل «او الانداد والاتراب»، ومن ذلك قولهم: -
فلان ده من دورنا.. بمعنى من اترابنا او في نفس سننا.. وبهذا تكون
ست الدور و«ست الجيل» بمعنى واحد.
ويبدو ان اسرة الشاعر خليل عجب الدور تعود بأصولها الى كردفان، ولا
ينبغي ان يكون ذلك مستغرباً. ذلك بان معظم «هوارة» السودان وهي
القبيلة التي ينتمي اليها شاعرنا، انما يقطنون في كردفان. فمنهم بدو
ورعاة إبل، ومنهم مزارعون قرويون ومنهم سكان حضر، حيث يوجدون
في مدينة الابيض وغيرها من المدن الاخرى.
ويؤكد الشاعر نفسه كردفانية أصله صراحة عندما يقول في قصيدته:
-«كردفان أم الأبطال» بصفحة «76» من الديوان:
رعى الله ربى كردفان ومن بها * وباكرها غيثمن المزن هاطل
وبارك في ارض الابيض انها * مدينة خير اهلها السمرفُضَّل
هـنالك ارحام لنا واواصـر * قديمة عهد ليس بالبين تُفصل
كما صرَّح الشاعر بتلك الارومة الكردفانية مرة اخرى في قصيدته:-
«في مدح البرعي رجل الزريبة» وذلك حين يقول:
اقبل هدية شيخ شوقه لكمو * مهما تعاقبت الايام متصل
لهالقضارف سكنى والابيض مع * ود اب صفية آباء له أُول
واما ود اب صفية المذكور فهوالشيخ بدوي ود اب صفية، من اولياء
مدينة الابيض واعيانها المشهورين. نبه ذكره في عهد الحكم التركي -
المصري، حيث اسهم اسهاماً واسعاً في نشر الاسلام في جبال النوبة،
ولفرط شهرته، ارتبط عند اهل كردفان باحد امثالهم الشهيرة، وهو
قولهم: - انت قاعد في اللبيض وما بتعرف ود اب صفية؟!
وقيل إن الشيخ بدوي هو اول من قال:
«نحن قبيل شن قلنا، ما قلنا الطير بياكلنا»؟ فاطلقها مثلاً.
شرع خليل عجب الدور في نظم الشعر منذ ان كان طالباً بالمعهد العلمي
بام درمان في ثلاثينات القرن الماضي،بيد انه لم يوفق في جمع ديوان
شعره في مخطوطة واحدة، إلا في العام 1997م، وهوالديوان الذي
صدر في العام 2002م تحت عنوان: «خواطر ومشاعر» ضمن
سلسلة «إبداع المعلمين» التي تولت اصدارها وزارة التربية بولاية
القضارف، باشراف وزيرها الهمام،والمثقف الملتزم، الاستاذ البشير
سهل.
وبمناسبة الحديث عن المعهد العلمي، فقد نبَّه الاساتذة الذين تحدثوا في
الندوة، وخصوصاً الدكتور احمد محمد البدوي، على ان شعر خليل عجب
الدور، ينم عن إيمان، ونفس مطمئنة ويقين على خلاف أشعار مجايليه
بالمعهد العلمي وغيره، التي غلب على كثير منها الشك، والحيرة، وربما
التهتك والمجون في بعض الاحيان.
ثمة ملاحظة جوهرية في تقديري على شعر خليل عجب الدور، ألا وهي
انه شعر يحتفي بالزراعة أيما احتفاء حتى لربما جاز لنا ان نسميه
«شعراً زراعياً» اذا صحت هذه التسمية.
ولا يقتصر شعر خليل عجب الدور على التغني بالزراعة في مجتلاها
الجمالي، وما تبعثه خضرتها في النفوس من مشاعر البهجة والإنشراح
فحسب، وهوامر خاض فيه الشعراء قديماً وحديثاً، داخل السودان
وخارجه، إذ استوحوا من مرائيها صوراً بديعة استخدموها في وصف
المحبوبة خاصة.
فمن بين تلك التشبيهات التقليدية المستوحاة من عالم الزراعة للفتاة
البضة، الخضلة، الريانة العود في السودان مثلاً،وصفهم لها بأنها مثل:
«قصبة مدالق السيل»، يعنون القصبة من الذرة التي تتدالق السيول
على مغرسها كي تسقيها، فهي ريانة دوماً، ومخضرة ونضرة أبداً.
فشعر خليل عجب الدور يفيض بمثل هذه الصور البلاغية الجمالية
المستقاة من دنيا الزراعة، ومن ذلك قوله في قصيدة «قضروف سعد»
بصفحة 42 من الديوان ما يلي:
قضروف سعد في الخريف جمالها * حيث السهول الخضر حيث جبالها
ظهرت لنا رأد الضحى مخضرة الساحات * اثرفي القلوب جمالها
الزهر فواح الشذى هو عطرها * والعشب نضَّاح الندى سربالها
غير ان شعر خليل عجب الدور يتميز من حيث الأغراض، بصفة مميزة
هي انه يمثل مرآة صادقة تعكس ادبيات تراث الزراعة «الآلية»،
اعني زراعة المشاريع، وماتستدعيه الى الاذهان من معسكرات،
و«تايات» و«تكال» و«كنابي» للمزارعين، ووصفات الـ «بني كربو»
و«الكجيك» اي السمك المجفف، المرتبطة بمشاريع سمسم والحواتة
في شرق السودان، وهبيلا وكرتالة بجبال النوبة، والجبلين وبوط
والدمازين والرنك وملوط وغيرها بالصعيد والجنوب، وعمليات اجتثاث
الاشجار من اصولها، او ما يعرف بـ «امبحتي»، والغلا الوفيرة التي
تنتج بكميات تجارية كبيرة من محاصيل الذرة والسمسم متجاوزة أبعاد
ما يسمى الاقتصاد الكفائي Subsistence Economy، الى
آفاق النمو الانتاجي، الذي يغل فوائض كبيرة قابلة للتسويق.
وذلك هو ما يصوره الشاعر خير تصويرفي قصيدته: «قضارف الخير»
الواقعة بصفحة 40 من الديوان، حيث يقول:
قضارف الخير زاد الله نعمتها * ونج محصولها من كل آفات
تجمع الناس فيها من ابي زبدٍ * غرباً ومن كسلا شرقاً وسنكات
قد مارسوا الحرث بالوابور فامتلأت * كل المخازن من حمل السفنجات
والسفنجات -كما هو معروف في السودان حتى الى زمان قريب- هي
جمع «سفنجة»، وهي تسمية «سودانية لضرب من الشاحنات
البريطانية الصنع من طراز «بدفورد».
ومن ذلك قوله ايضاً:
وسرت مبتدراً للزرع في نفرٍ * من المساليت هم نصف الثلاثين
من كل من اسمه موسى بن ابكرٍ * ولد اساغة او موسى بن هرون
هذا هو شعر في منتهى الواقعية، الا انه يبلغ قمة الواقعية والصدق
الفني، وصدق الانتماء الاجتماعي في قصيدته «مزارع يخاطب
مزرعته» المنشورة بالصفحات 46-48 من الديوان حيث يقول:
يا حبذا كوخ البلاد الضيق * المتواضع المتراجف الميَّال
يا ساكن الكوخ الحقير معذَّباً * بالزمهرير تحوطك الاوحال
متجشما ما لايطاق من الاذى * لا شل زندك ايها المفضال
لا تزهدن هناك زادك من بني * كربوالفطير تعوسه العمال
وشرابك الماء المرنق او * منامك في الثرى وفراشك الشوال
لا تحسبن السعي منك سفاهة * فالسعي للرزق الحلال حلال
ان الزراعة وهي اشرف مهنة * والعاملون بها هم الابطال
يتــــــــــــــــــــــــــببع ~ ~
تعليق