محمد علي عبدالله الأمي «نبذة عن حياة الشاعر»

تقليص
هذا موضوع مثبت
X
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • محمد علي عبدالله الأمي «نبذة عن حياة الشاعر»


    لم تكن هجرة شعراء الحقيبة للأبيض في منتصف الستينات هي الأولى لعروس الرمال.
    فقد سبقهم إبراهيم العبادي وجاءها علي الشايقي مهاجرا عام 1936م واستقبلت عدداً من المبدعين
    وكانت قبلتهم الثانية بعد ودمدني.

    فجأة انفض السامر عن أمدرمان وعاد عبدالله الماحي إلى قريته البجراوية وهاجر محمد احمد سرور شرقاً وعمل سائقاً.
    ثم اشتغل بتجارة الشاي بين كسلا وإرتريا واستقر بمدينة كسلا وتزوج هناك وطاب له المقام مؤقتاُ في (أم تقاق).

    وانتقل بعض الشعراء من أمدرمان إلى عاصمة الجزيرة ودمدني منهم إبراهيم العبادي..
    وصالح عبدالسيد (أبو صلاح) وعبدالكريم مختار (كرومة) والأمين برهان.
    لحق بهم سرور وعمل سائقاُ في شركة (الفيات) وانضم إليهم عبدالله الماحي مع قاضي جنايات المدينة
    وعمل كرومة في الميكانيكا، وكان هناك الشاعر علي أحمداني (المساح) شاعراً هيماناً ينظم رقيق الشعر
    وهو جالس أمام دكان الترزي الإفرنجي محمد علي أحمد، يفتح (العراوي) ويخيط الزرائر وهو راضياً بمهنته وحياته البسيطة
    وسعيداً في مدينته ودمدني التي صارت وعاء جديداً للفن السوداني بوجود هذه الكوكبة من المبدعين.

    ذكر د. الفاتح الطاهر في كتابه حول فن الغناء
    واقعة اجتماع هؤلاء في منزل الشاعر محمد علي الأمي في يوم ممطر،
    نزل فيه المطر بغزارة فأخذ السقف يشرح الماء وبدأ التراب في التساقط من حيطان الغرفة.
    والماء من سقفها الواهن مما جعل الجميع في هلع شديد يتوقعون سقوط السقف عليهم في أي لحظة،
    فقال لهم العبادي مداعباً
    (إن الأمر لا يدعو للخوف، فإذا هبط السقف سيكون ذلك حدثاً تاريخياً، وسيكون هذا البيت قبراً لفن الغناء في السودان).

    أوردت هذه الواقعة لإلقاء بعض الضوء على شخصية محمد علي عبدالله الذي كانت داره مفتوحة للجميع،
    لكنه تغير كثيراً بعد هجرته إلى مدينة الأبيض حيث استأجر دكاناً في قلب السوق بالقرب من حلواني (رامونا)
    الشهير ليمارس منه مهنته التي يجيدها مع النظم والغناء.

    كان محمد علي ترزياً بارعاً
    اشتهر بحياكة الجلاليب البلدية و(قفاطين الألايجا) ومفردها قفطان.
    والألايجا نوع من الحرير الأبيض كان يجلب من بلاد الشام ومصر ويلبس فوق الجلابية يرتديه الوجهاء وعلية القوم.
    وكان أهل الأبيض أصحاب مزاج في ارتداء الأزياء الراقية.. البلدية منها والإفرنجية..
    إذ كانت جلابية (السكروتة) زياً شائعاً عند معظم أهل المدينة الذين اشتهروا بالاهتمام بهندا مهم.


    ازدانت مدينة الأبيض في الستينات من القرن الماضي بكواكب كانوا قد أضاءوا ليالي أمدرمان بالغناء الجميل
    فجاء بهم الزمان إلى عروس الرمال ليغردوا في دوحتها..
    استحقتهم واحتفت بهم وضمتهم إلى صدرها.. وبدفئها وحنانها،
    حركت فيهم مكامن الإبداع الكامن في وجدانهم وانطلقت حقيبة الفن تجدد شبابها من جديد في عروس الرمال.

    كانت مصادفة غريبة أن يلتقي في وقت واحد في مدينة الأبيض الشعراء سيد عبدالعزيز وحدباي والأمي وأب عشر
    والقرشي وقاسم عثمان وكوكبة أخرى سيجيء ذكرهم.

    اجتمع هذا الجمع الرائع الذي جاء منه الكيان الإبداعي (جمعية أصدقاء حقيبة الفن)
    كان لقاءهم الأسبوعي الشامل يتم عقب صلاة الجمعة في منزل أسرة أحد (الأصدقاء)
    ويمتد الأنس والغناء والسمر إلى ما بعد منتصف الليل وكانت نخب منهم يلتقون مساء كل يوم.

    كان محمد علي في الأبيض منغلقاً على نفسه،
    بالرغم من أن دكانه كان مكاناً متاحاً فيه اللقاء لبعض صفوة أصدقائه،
    وبعد مغادرة دكانه لا يراه الناس إلا على ظهر حماره وهو في طريقه بين الدكان والمنزل.
    غلبت على طبعه الحدة وعلى ملامحه انقباض والتهجم وعلى لفظه الغلظة.
    وكان هناك فصام بين شخصيتين.. إحداهما لشاعر بالغ الرقة والأخرى لإنسان يصعب التعامل معه.
    إذ كان متحفزاً على الدوام وقد استفاد الحاج سرور من الشخصية الأخرى بعد الانقلاب الذي قام به سرور
    على مغني الطمبور الأول في زمانه (الطمباري عبدالغفار الماحي)

    ولم تشفع لعبدالغفار هجرته إلى مدني تاركا أمدرمان لسرور حيث لاحقه الحاج إلى هناك وسلط عليه أصدقاءه المقيمين بمدني
    وعلى رأسهم محمد علي الأمي، الذي تصدى لعبدالغفار المغلوب على أمره ومنعوه من الغناء في مدني
    وتربصوا به مما أسدل الستار على غناء الطمبور واختتمت الحياة الفنية لشيخ الطمبارة عبدالغفار
    على يد أصدقاء سرور وعلى رأسهم (الأمي).

    هذا اللقب الملعون (الأمي) رافق شاعرنا في مسيرته الفنية
    وارتبط به وما كان يروقه قط وكان سبباً لتلقي وفدالاتحاد النسائي في الأبيض لسيل من الإهانة والطرد
    من دكانه لمجرد لتفوه بالكلمة وهم يسألون بحسن نية عن (دكان الأمي).

    لم يكن محمد علي هو الأمي
    الوحيد من أبناء جيله من الشعراء، إذ كان صديقه الشاعر الرقيق علي المساح أمياً أيضاً
    ولم يكن ترزياً في قام محمد علي، بل ظل فاتحاً للعراوي وخياطاً للزراير في آخر سلم المهنة،
    ولم يكن يهتم كثيراً بذلك وهو ناظم (الشاغلين فؤادي)
    و (زمانك والهوى أوانك أحكمي فيما هذا أوانك) والقائل معتداً بنفسه:

    أنا الحامل البلا ما اشتكا
    أنا الكاتم السر ما حكا
    أنا العقدة بحل مشبكا
    وأنا (المساح) دمع البكا

    كان الكاشف أمياً
    وهو العبقري الذي ابتدع اللازمة الموسيقية في الأغنية السودانية وانتقل بها إلى عهد جديد،
    أما عائشة الفلاتية
    عندما سألوها في لقاء إذاعي عن أميتها أجابت بعفوية (ومعاي أخوي الكاشف).

    كانوا عباقرة في مجالهم ولم تنتقص منهم المهنة والأمية شيئاً بكل كانت المهنة جزءاً من عبقريتهم
    التي صنعت هذا الإبداع، فقط قضى الشاعر والملحن عبدالرحمن الريح حياته في برندة في سوق أمدرمان
    يصنع المحافظ (المفاحض) النسائية وينقشها وينقش القصائد بحروف ذهبية من وجدانه المبدع
    يشاركه في المهنة زنقار المغني (ونعد الآن بحثاً حول المهنة والإبداع في الغناء السوداني).

    كان هناك ترزي آخر افتتح محلاً غير بعيد عن دكان الأمي جنوب المسجد الكبير بالأبيض،
    يمارس منه مهنة الترزية..
    كان الشاعر المبدع حميدة أبو عشر من الذين تواجدوا في تلك الفترة بمدينة الأبيض
    رافقه صديقه دفع الله الغوث. وكانا من أمهر الترزية في خياط الجلاليب البلدية.

    أبدع أبو عشر العديد من الأغاني منها (ناداني غرامك) و(ظلموني الأحبة) لعثمان حسين ورائعة الكاشف
    (وداعا روضتي الغنا وداعا معبدي القدسي)
    هذا الأغنية التي شدا بها إبراهيم الكاشف في حياته وشيعه بها صديقه الفنان صديق الكحلاوي
    وهو يسير وراء الجثمان حاملاً الرق..
    تملأ وجهه الدموع وهو يغني باكياً (وداعا روضتي الغنا)
    وعندما انفض المشيعون بعد الدفن وقف وحيداً على قبر صديقه مواصلاً الغناء.
    كان ذلك وفاءً لعهد قطعاه –الكاشف والكحلاوي- ورحل الكاشف أولاً وأوفاه صديقه العهد.

    حميدة أب عشر لم يذع صيته بالرغم من العديد من الأغنيات الخالدة التي صاغها.
    وكان أب عشر واحداً من أصدقاء حقيبة الفن حريصاً على لقاء أصدقائه من الشعراء ومحبي الحقيبة كل جمعة،
    وكلما أتيحت له فرصة لقاء الجمع مصطحباً خدن روحه دفع الله الغوث.

    كانت أيام محمد علي في الأبيض مليئة بالإبداع والعطاء الشعري ونظم كثيراً من الأغنيات الخالدة
    وبالرغم من ذلك بقي بعيداً عن جمعية أصدقاء حقيبة الفن وعن منتديات الجمعة ولقاءاتها الثرة.
    لم يكتف بذلك بل تراشق معهم الهجاء ولا أستحضر الآن من هو البادئ الذي أظلم
    ولكنه كان تراشقاً وقصفاً وذماً بينه وبين أعضاء الجمعية تصدى له هجاؤها الفحل ود الزبير،

    وبقي الشاعر الرقيق سيد عبدالعزيز وشاعر الجمال حدباي
    بعيدين يرقبان المعركة عن بعد. وقد طال شعر ود الزبير حتى حمار الأمي ولم يقتصر محمد علي في الرد على الجميع.
    نستميح القارئ عذراً لعدم تضمين بعض من أدوات تلك المعركة. ولكننا سنقوم بنشرها لاحقاً في (أوراق الجمعة)
    عندما تكتمل، وما نكتبه الآن بعض منها، معها باب لشعر الأخوانيات لشعراء جمعية أصدقاء حقيبة الفن.

    بالرغم من اللقب الملعون (الأمي) الذي طارد شاعرنا ولم يتخل عنه حتى رحيله.
    ولم يشفع له دخوله الخلوة وتلقيه مبادئ التعليم فيها وحفظه شيئاً من القرآن،
    وكان اللقب سبباً في تجهمه الدائم.

    سيبقى محمد علي
    أحد الشعراء العظماء الذين تميزوا بالرقة وجزيل النظم،
    ومن الذين كان لهم دور رائد في تطور الأغنية السودانية.

    وكان شاعرنا من الذين نظموا غناء للحقيبة والغناء المعاصر بل وشارك كشيال (كورس)
    في أول أسطوانة عام 1936م كان قد (ملاها) بصوت بشير الرباطابي.

    وسطن ضمر واتهادى
    شايل ثمار نهاده

    (ويعتبر من أوائل الشعراء الذين جمعوا شعرهم وقام بطبع ديوانه الأول (تاج الأغاني) عام 1946م،
    ولم يسقه إلى طبع ديوان أشعاره سوى شاعر الدوبيت أبو عثمان جقود ديوان
    (السياحة النيلية في الأغاني السودانية) عام 1929م وديوان العبادي عام 1934م،
    وأشهر دواوين الأمي هو ديوان (أغاريد) الذي طبع ثلاث مرات).

    وشارك الأمي في آخر أيامه بعد انتقاله من الأبيض إلى العاصمة
    في برنامج حول حقيبة الفن من إذاعة أمدرمان.

    نظم الشاعر محمد علي عبدالله كثيراً من الأغنيات ذائعة الصيت منها:

    مستحيل عن حبك أميل، سألتو عن فؤادي، عيون الصيد، اسمعني واشجيني، اسمعني نشيدك،
    هواك وهواي بي جاروا، أنت حكمة ولا إنسان،
    ما بخاف من شئ برضي صابر والمقر لابد يكون.

    ونريي الأغنية الأخيرة (ما بخاف من شئ) ذاخر بمفردات تعبر عن حقيقة شخصية الشاعر
    التي لا تخلو من (دم حار) غلب عليه حتى وهو يتغزل.

    مابخاف من شي برضي
    خابر الـمُـقـدّر لابـد يـكـون
    ان اتـاني الهـم جيشو دافر
    يلـقي ياخِلاّي صبري وافر
    يلـقي عـقلي التام ليه خافر
    يلقي قلبي شجاع ما جَبُون
    بالعِـدا مـعروف مـابـبادر
    مـابخون الجار ماني غادر
    مـابـقول للناس مثلي نادر
    بـل بـقول للخالق شئون
    مـاعصيت مولاي ماني فاجر
    لا و لا بـالـعـالم بـتاجر
    نـفسي يا احـباب ليها زاجر
    لـم اكون كل يوم ليّ لون
    الثـبات مـعروف لَيْ مُعاصر
    لـو بقيت في داخل مَعاصر
    والإلـه غـير شك ليّ ناصر
    رغـم انف الواشي الخؤون
    قول لِي شاهد الزور فيم سائر
    هّـدي روعك قبل الخسائر
    يـاما قـبلك عـميت بصائر مـن
    لساني وقولي الهتون
    قول لي اهل الجور والمساخر
    مـافي اوّل مالـيـهو آخر
    مـا بدوم العـز والمـفـاخر و
    ما بدوم الظل و الحصون
    عـن لسـان الحق ماني نافر و
    ما جحدت الخير ماني كافر
    مـاضمرت السوء ماني حافر
    للـصديق هاويات السجون

    كان للشاعر الفضل في جمع الملحن برعي محمد دفع الله والمطرب عبدالعزيز محمد داؤود.
    وهو شاعر أول أغنية لحنها برعي لأبي داؤود ومنها انطلق هذا الثنائي البديع ..
    وكان ذلك من خلال أغنية (أحلام الحب) التي تقول:
    زرعوك في قلبي
    يا من كساني شجون
    و رووك من دمي
    يا اللادن .. العرجون

    يا الباسم الهادي
    نورك سطع.. هادي
    وماذا أقول
    في سناك ..
    فيك الدلال .. عادي
    وماذا أقول؟؟
    شايقاني فيك قامه
    سمحة ومليحة لون
    وعاجباني فيك بسمه
    وساحراني فيك عيون
    أنا في انتظار عطفك
    مرت عليّ سنين
    أسعدني بنظره
    وخليك علىَّ حنين
    في حسنك الفردي
    ياما نظمت فنون
    هيهات أسلو هواك
    مهما اعتراني جنون
    أنا لي لقاك صادي
    لو في الخيال راضي
    خصمي هواك يا وديع
    من يا تري القاضي

    وقد نعمت مدينة الأبيض بأغاني محمد علي
    من خلال صوت المغني الرائع الذي أضاء ليل المدينة بغنائه البديع ..

    ورحل مبكراً (علي يعقوب) لم يكن علي مغنياً محترفاً ولكنه كان رياضياً ونجماً من نجوم المجتمع،
    وكان من ظرفاء المدينة وواحداً من كوكبة فرقة (دولي) ومغنيها الأول والتي ضمت..
    جيمس وعزت وطبجي وعلى رأسهم اسماعيل محمد أحمد المشهور بـ(دولي) مؤسس الفرقة الظريف.

    كان (علي) صاحب صوت مغرد مفعم بالتطريب.. ا
    نطلق في سماء المدينة محبباً أغاني الحقيبة.. وكان أداؤه لها متميزاً وذا طعم خاص..
    وكانت أغاني محمد علي الأمي الأكثر وقعاً في نفس علي يعقوب و(بنات الأبيض).

    رحل (علي) مبكراً عام 1970م،
    بعد أن لزم سرير المستشفى الإيطالي بالقاهرة ..و كان يعاني من داء عضال..
    رحل وترك وراءه صوتاً فريداً محفوظاً في وجدان أبناء جيله،
    وفي التسجيلات النادرة لعشاق الطرب الأصيل وفي ذاكرة المدينة النبيلة.

    كان (علي) يشارك بالغناء في لقاءات الجمعة ويحرص على التغني بقصائد الأمي فيتمايل
    الآخرون طرباً واحتفاءً بهذا الشعر الجميل وينسون مواقف الأمي منهم ومن جمعيتهم..
    كان ذلك في زمن مفعم بالتسامح والنقاء.




    لِن أغيّــر مَــن نفسـِـي
    لأجٍـل أي شخـِص
    ولـن أعبِــث بشخِصيتـي لآرضّي الاخريـِن
    أنَ لِـم تعِجبـك شخصيتـي!!
    ليِست مشكّلتــي فغـِــيرك يعشقهــَــا..

يعمل...
X