كتاب الحنان
عاطف خيري
كشف
والحنانُ طعمهُ داكن’’ يميل إلى السُّمرة ،
وهو يُرى ،
يراه الرضيعُ متحققا غير منقوصٍ ، يراه ويحسّه مِثلما يرى صدْر أمّه
يراه المشرفُ على الموت كذلك ، يرى منه صفحةً من وجهه الممتنع
مشيحا بلونه إلى جهةٍ لا تطالُها بوصلة’’ ولا يتكّهن بها فلكيِّ مثابر.
وهو في كلِّ هذه الأحوال والمراتب مجبول’’ من طينة العصب المتماسكة الهشّة،
طينةٍ تبتلُّ بذاتها ولذاتها وتتشكّلُ على أصابع الحاجة والنزوع إلى آخر-كائنٍ
ما كان – لا ليمتزج فيه وينصهر ، بل ليتحقّق في عنصرٍ من عناصر التفرُّد
بالمكان في الذات العاشقة . والتفرّد بالمكان منزلةُ شاسعة’’ ومتشابكة.
إذ أن العشْقَ في جذْر مكان ، ومن انفرد به ، انفرد بالحواس
وبسائر شطحات الجسد ، لذلك فإنك لا تستطيع أن تتصوّر الله
أو تضع له ملحما ، فقط تتعشّقُه ، لأنه ملءُ المكان.
وللحنانُ لون’’ تخطىء العينُ اذ تراه – لأنه مُذاق – وتتوه الكفُّ حين تحاولُ
تحسّثس خطوطه المتفرّعة ، وتطشُّ القدمُ برغبتها في الوصول إلى أقرب قريةً
من قراه المستترة خلف نهر الظّمأ.
والذي سعى إلى لونه ، لعقه وذاقه ، لم يرهْ ولم يذهب إليه .
والحنانُ يلتهمُ بعْضَه ولا يشبع ، يشربُ بعضه ولا يرتوي
يقتلُ بعضه ولا يموت .
نسيج
في منزل السر .. هنا ،
بالقرب من لوحةٍ له لم تتِم ، خلف شجرة رعاياه من كتمانٍ وتمتمةٍ وسكوت ،
بين أقاليم وقته – لا صباحَ لا مساء- جلستْ الصبيةُ تتنفس أنوثَتها
وتُحصي أوجاع فستانِها . سرب’’ من الأسرار يجتاح مسام الروح
ويقودها عبر دهاليز ملغومةٍ بالكشف والمعرفة
في منزل السر...هذا
حيث الخُطوة انفجار’’ مكتوم ،
والضحايا من عرق يجْلُون صورةَ العاشق ،
والندى كليمُ الطّين بين أصابعه يتفوّه بأسماء من نحتوا في شرق اللوحة
ما يُسمى بالشّمس
في منزل السر هنا ، طرق’’ على الباب
...لا يفتح أحد...والنوافذ في شُغْلٍ عن الهواء
كشف
وللطيورِ في حنانها مسلك’’ فريد.
هى صورتُه في الفضاء ، وشكلُه الذي ارتضاه حين يحِنُّ إلى التحليق.
وللحنان في البشر عدد’’ من المنازل ،
في الطير منزلة’’ واحدة يُولد العصفورُ عليها ويموت ،
اذ أن الطير حاذق’’ وله من البصيرة ما للأنبياء ،
بل قل فوق ذلك . ولولا الخوفُ من الشِّرك والإلتباس
لأطلق الفقهاءُ لفظةَ ((حنان)) على كالم قبيلة الطير.
والطيورُ في رحلةٍ من الحنان لا تنقطع ،
حتى لقد شحب لونُها ودقّت ملامحُها وصار صوتَها إشارة.
هذا ما أدخلها في زمرة الغربة والاستيحاش . والأولى – أى الغربةُ-
ما هى إلا البيتُ الذي استأجره الحنانُ في قلب الكائن الحيّ.
ومن أراد رؤيةَ الحنان لبرهةٍ ،
انتظر حتى يقع عصفورُُ في شَرَكٍ ، فأسرع ونظر عينيه.
وفي بقية الحيوان نزوع’’ إلى الحنان القديم ،
أي ما عجنه اللهُ في طينة الكائن من بهارٍ وأخلاط طّيبة
حتى صار الحنانُ سَمْعهم وبصرَهُم . أما البشر فقد يسوقُهم الحنانُ
إلى التهلُكة ، لأنه عند بعضهم يُعمي العقل ويفتحُ البصيرة ، فُيحيلُ الإنسان
إلى هجرةٍ متصلة في أقاليم التّيه والهذيان.
وآخرون تجد الحنان قد أشرق حتى أحالهم إلى كائناتٍ طيفية رقيقة ،
حالمة وعلى وشك البكاء.
نسيج
لمن كنت تُطرَّزين ذلك الهدوء
تحت أي ظلٍ قُمتِ بإعداد قهوتِك
والنار! النارُ ستحرق أطرافَ نارِك
يستلُّ الفضاءُ من حولك ما لديه من حِيلٍ وأحابيل
كي تريمي ولو لثانية لفتةً على قماشة الأبيض المشدود.
تبتسمُ رئةُ الهواء إذ تزفُرين أرق الباحة
كلُّ شىء معدُّ لاستقبال ما علق بأهداب حذائك وأنت تمشين بحذر
على بساط الإرتباك
فرقة’’ من عازفي الحرائق يحملون ساكسفوناتهم المتوهّجة ،
ساكسفُوناتهم التي يُحب الآلهةُ سماعَها قبل أن يخلقوا بصمةً على خنصر أتثى
تعشقُ الظلال
كلُّ شىء معدُُ ، والشجرةٌ نفسُها تقفُ
كأنها ما أغوت أحدا ، كأنها ما عاشرت المشاهيرَ من الطيور
والمتعبين من أبناء الريح وجيل الزنادقة من قبيلة الشمس.
الشجرةُ نفسها تقفُ بين جمهور الفواكه الناعسه ،
والكرنفالُ يُنصبُ ملكا ويخلعه ، يُرسِل نبيا ويخذله ،
والعشبُ النحيلُ ذو الملمس الخشن يرقدُ في الصفوف الأخيرة
لا يُصفّق لأحد ، ولا يذكره أحد’’ في خطبة الوداع.
ربما كلُّ شىء مُعدّث .الكلُّ يذهب إلى محكمة الجمر ويعود أكثر ثقةً بالجحيم
العدلُ في الماء شىءُُ من صنوف الفضيحة ،
تتوضأ اللغةُ بنا ولا تُصلّي
تبلعُ سريعا لأنني أتّقى الليلَ بالخمر
الطبيعةُ لا تعرف الحِداد
ليس هنالك شىء’’ مُعَدُّ
كشف
وعندما يحنُّ الرجلُ يحدثُ أمر’’ ما في النسيج النفسيّ والعضويّ منه.
بل أيضا في المكان والزمان حوله ، شىء أقرب إلى الخيمياء القديمة ،
عندما يجتهد العالِمُ في استخراج الذهب من معادن خسيسةٍ ،
تجده مهووسا بالبحث عن شيءٍ هو في حكم العدم ،
أو تراه يهتبلُ الفرصةَ لأقتناص سريرته في سعيها إلى ما تبتغي ،
وهو في كلِّ الأحوال ناقص’’ ومعرض’’ للعطش.
يقولُ محمد المهدي المجذوب:
أريد أن أكون واحدا
مُبرّءا من الصباح والدياجر
ولل أكون حاجةً ساعيةً لآخر
وفي خَلق الانسان بشكله الآدمي المعروف فكرة’’ أصيلة ،
هى الحاجة والفقد. فاذا هو فرد يديه أحدث فراغا ،
وكذلك رجيله . أنظرُ إلى أصابع كفّه المتفرقه ، وفمه الفاغر بالنداء
كل ما فيه يدعو للإلتحام. تلك الجهاتُ وغيرها من الجسد
يقطنُها الحنانُ كما يقطنُ الليلُ في الليل.
أما إذا حنّت الأنثى فإنك واجد’’ سرا من أسرار الحرفين كافاً ونون
و((كُن)) هى مفتاح الوجود والفناء معا ، وهى سرُّ اللغة حينما تزدهي
بقوة الفعل وقدرة التكوين وإجابة الطلب.
وحنينُ الأنثى يقعُ بين الحرفين ، في موضع لا يخص الكاف
ولا ينتمي إلى النون وموقعه هذا زماني وليس مكانيا ، لأنه لا يُخْتبر
ولا يُقاس بأدوات المكان
كادت الأنثى أن تكون كلها حراما
لولا اللبْس في موضع حنينها بين الحرفين
والحنينُ لديها ضرب’’ من المرض – المرض اللطيف
يصيبها فينتقل إلى الجمادات والنبات والحيوان
من ثم الانسان من حولها ،
ويستشعر المعنيُّ وإن كان في حكم الأموات.
والحنان الذي نعْنيه هنا الدَّفقُ الابتدائي النقي ،
عندما يجاهدُ الطينُ لأن يغدو نارا ، والنارُ لأن تغدو طينا.
ذلك الحنان الغريب ، غير مدَّعِ ولا مبتذل ،
هو عند الأنثى يمنحها قدرة الاختراق والوصول وكشف سُدف الغيب
والنظر إلى ما بعد الظاهر ، بل يجعلها حاذقةً في حَبْك الحِيَل
وسُبل الامتلاك وورود بئر من تُحب ،
لأن الحنان عندها يبدأ مُهرجا وشيطانيا ،
إلى أن يبلغ رشده ويتوب اذا ما غدت أمّا ،
والحنان لدى الأم مشهود’’ ومعلوم وهو باب’’ أفضى بها إلى الجنة.
نسيج
النارُ!النارُ ستحرقُ أطراف نارِك
أصعدُ هاويةً من نشاذٍ وقلق ، أجرُّ قطيعا من التجاعيد تجترُّ ضجر الليلة الفائية
أمدُّ لساني للأغبياء من حفدة الغبار ، أبتلعُ كلمةً تساوي بالضبط ما يحدث حولنا
والشارع وقت ما ننشغلُ بتفاصيل صحبتنا ، يبدو طيّبا
والمغيب في انتظارنا ، كأنه لن يفعل الشفق إلا حين تكونين بجانبي
كأنما نزلتِ فجأةً من غصن رحيم.
أصعدُ هاويةً من سؤال وفَقْد
تتسللُ اقمارك الحانيةُ ضلال عتمتي ، ويُضاءُ رصيفُ الذكريات شيئا فشيئا ،
أعرفُ كم من الوقت مضى عليّ وأنا أحاور نجمةً عصيةً تقطنُ سماءَ الوهم مني
وأعرف كم من حقول للقطن صبغُتها بلونٍ لا يخص التجربة .. لا يخص الحقل
وأعرف كم أنا صريع’’ للهرب
كم أنا مريض’’ بك ، في الغياب والحضور...سيّان هذا الذي يكون
كم مضى من الليل وأنت تعتّقين هذا الصمت ،
كم مضى من التداعي وأنت تنشلين حروف العلة من اعترافك أمام كاهن البوح
كم مضى منك ،
وأنتِ في ملكوت هذا الهرب.
كشف
أولُ الحنان حاء’’ ونون.
الحاءُ عندي حرف’’ متطرف’’ من حروف الألم ،
هو صوتُه الذى يكذب ،
عكس الهاء التي تدّعي صلتها بالألم والتأوّه
لكنها تذهب لتدخل في صوت الضحك أيضا.
النونُ حرف’’ شهير .
وبين الحرفين صلة’’ شُبْهة’’ ،
اشتباه معنى الحنان نفسه وتفسير مقتضى أحواله.
نسيج
واشْرِقي
فيَّ الثياب العطوفهْ
فيَّ
بالمناقير تلِحُّ
سادرةً في سُمْرةٍ جائره
كلُّ ما فيكِ يركبُ رأسه
تطففين الفراقَ ، ولنا
نزهة’’ من غيوم اليدين
سأنفَقُ ربما في خلاءٍ قريبْ
فارفعي سرَّ جوعي
للجناب الشفيف من الطين ،
يرعى شجراً من الأسرار
اعودُ مرضاي فيكِ وأعلو
أزْهقُ عشرين آهةً في الطريق النحيل إلى القلب
تجفلُ شامة’’ لصق روحك
في ظلمة الثوب تدقّث
وادْخُلي في سُهادي
اُُدخلي نَوبتي
كشف – نسيج
الحنانُ أن تغيب .
الحنان في المغيب
ذات شفق ،
فضاء’’ يتهيج ،
يخلعُ ملابسه ويقصُّ الضفائر ،يلقي بعيدا بأظافره وقشرة رأسه .
ضفائرهُ المجدولةُ ، يلطِّخها بدمٍ ساخنٍ ويلوّحُ بها في فراغ .
على مقربةٍ ، تغلي قدور’’ ضخمة’’ من نحاس اجداده ويتصاعدُ البخار
الذي لا يفشي سر ذلك المحترق.
الآن السماءُ عارية’’ وعلى أُهبْة الرسم ،
على أُهبْة الحنان الذي مظهره الإرتباكُ ، وباطنه وحشة’’ وغربة
لها شكلُ صنارة الصيد ، تنغرز في النسيج الدقيق الرطب من لهاة الروح
وتسوقها على موجةٍ لا تعترف بقانون الطفو ،
فأنت الغريقُ لا محالة ، وأنت آخرُ صيحةٍ أطلقها آدمُ حين حاورته حواءُ .
بالدفء والرائحة المستحيلة ،
حينها فالحنان له وشائجُ لصيقة’’ بالتأتأة والفأفأة والحبْسة ،
أيضا الخرس ، لأنه يُلغي الكلام ويصيبُ الفردَ بالتّشتت ،
راميا باللغة وسائر علوم الاتصال إلى الأرض
واذا أُصيب احدهم بالحنان تجده لا يُحسن التصرف أو الإنصراف ،
إنما هو يتردّد في فناء الكلمة لا يدخلها ولا يخرج منها .
وإذا حَدَثَ وفتح اللهُ عليه بشيء من البيان
تسمعُ صوته كأنه آتٍ من غيهب سحيق ،
واذا أمعنتَ النظر في غور عينيه فإنك تحظى بمشهدٍ فريد ،
هو كيف ترفُّ الجفونُ والحواجب دونما سبب ،
بل قُل كيف تُحضّر الدموع في مقلة الكائن الحي .
والحنانُ حين يشتدُّ أسبابه ودواعيه ،
يقفُ حائلا والإفصاح ، عدوا لدودا والبيان
لذلك ، نحنُ لا نفهم لغة الطّير.
عاطف خيري
كشف
والحنانُ طعمهُ داكن’’ يميل إلى السُّمرة ،
وهو يُرى ،
يراه الرضيعُ متحققا غير منقوصٍ ، يراه ويحسّه مِثلما يرى صدْر أمّه
يراه المشرفُ على الموت كذلك ، يرى منه صفحةً من وجهه الممتنع
مشيحا بلونه إلى جهةٍ لا تطالُها بوصلة’’ ولا يتكّهن بها فلكيِّ مثابر.
وهو في كلِّ هذه الأحوال والمراتب مجبول’’ من طينة العصب المتماسكة الهشّة،
طينةٍ تبتلُّ بذاتها ولذاتها وتتشكّلُ على أصابع الحاجة والنزوع إلى آخر-كائنٍ
ما كان – لا ليمتزج فيه وينصهر ، بل ليتحقّق في عنصرٍ من عناصر التفرُّد
بالمكان في الذات العاشقة . والتفرّد بالمكان منزلةُ شاسعة’’ ومتشابكة.
إذ أن العشْقَ في جذْر مكان ، ومن انفرد به ، انفرد بالحواس
وبسائر شطحات الجسد ، لذلك فإنك لا تستطيع أن تتصوّر الله
أو تضع له ملحما ، فقط تتعشّقُه ، لأنه ملءُ المكان.
وللحنانُ لون’’ تخطىء العينُ اذ تراه – لأنه مُذاق – وتتوه الكفُّ حين تحاولُ
تحسّثس خطوطه المتفرّعة ، وتطشُّ القدمُ برغبتها في الوصول إلى أقرب قريةً
من قراه المستترة خلف نهر الظّمأ.
والذي سعى إلى لونه ، لعقه وذاقه ، لم يرهْ ولم يذهب إليه .
والحنانُ يلتهمُ بعْضَه ولا يشبع ، يشربُ بعضه ولا يرتوي
يقتلُ بعضه ولا يموت .
نسيج
في منزل السر .. هنا ،
بالقرب من لوحةٍ له لم تتِم ، خلف شجرة رعاياه من كتمانٍ وتمتمةٍ وسكوت ،
بين أقاليم وقته – لا صباحَ لا مساء- جلستْ الصبيةُ تتنفس أنوثَتها
وتُحصي أوجاع فستانِها . سرب’’ من الأسرار يجتاح مسام الروح
ويقودها عبر دهاليز ملغومةٍ بالكشف والمعرفة
في منزل السر...هذا
حيث الخُطوة انفجار’’ مكتوم ،
والضحايا من عرق يجْلُون صورةَ العاشق ،
والندى كليمُ الطّين بين أصابعه يتفوّه بأسماء من نحتوا في شرق اللوحة
ما يُسمى بالشّمس
في منزل السر هنا ، طرق’’ على الباب
...لا يفتح أحد...والنوافذ في شُغْلٍ عن الهواء
كشف
وللطيورِ في حنانها مسلك’’ فريد.
هى صورتُه في الفضاء ، وشكلُه الذي ارتضاه حين يحِنُّ إلى التحليق.
وللحنان في البشر عدد’’ من المنازل ،
في الطير منزلة’’ واحدة يُولد العصفورُ عليها ويموت ،
اذ أن الطير حاذق’’ وله من البصيرة ما للأنبياء ،
بل قل فوق ذلك . ولولا الخوفُ من الشِّرك والإلتباس
لأطلق الفقهاءُ لفظةَ ((حنان)) على كالم قبيلة الطير.
والطيورُ في رحلةٍ من الحنان لا تنقطع ،
حتى لقد شحب لونُها ودقّت ملامحُها وصار صوتَها إشارة.
هذا ما أدخلها في زمرة الغربة والاستيحاش . والأولى – أى الغربةُ-
ما هى إلا البيتُ الذي استأجره الحنانُ في قلب الكائن الحيّ.
ومن أراد رؤيةَ الحنان لبرهةٍ ،
انتظر حتى يقع عصفورُُ في شَرَكٍ ، فأسرع ونظر عينيه.
وفي بقية الحيوان نزوع’’ إلى الحنان القديم ،
أي ما عجنه اللهُ في طينة الكائن من بهارٍ وأخلاط طّيبة
حتى صار الحنانُ سَمْعهم وبصرَهُم . أما البشر فقد يسوقُهم الحنانُ
إلى التهلُكة ، لأنه عند بعضهم يُعمي العقل ويفتحُ البصيرة ، فُيحيلُ الإنسان
إلى هجرةٍ متصلة في أقاليم التّيه والهذيان.
وآخرون تجد الحنان قد أشرق حتى أحالهم إلى كائناتٍ طيفية رقيقة ،
حالمة وعلى وشك البكاء.
نسيج
لمن كنت تُطرَّزين ذلك الهدوء
تحت أي ظلٍ قُمتِ بإعداد قهوتِك
والنار! النارُ ستحرق أطرافَ نارِك
يستلُّ الفضاءُ من حولك ما لديه من حِيلٍ وأحابيل
كي تريمي ولو لثانية لفتةً على قماشة الأبيض المشدود.
تبتسمُ رئةُ الهواء إذ تزفُرين أرق الباحة
كلُّ شىء معدُّ لاستقبال ما علق بأهداب حذائك وأنت تمشين بحذر
على بساط الإرتباك
فرقة’’ من عازفي الحرائق يحملون ساكسفوناتهم المتوهّجة ،
ساكسفُوناتهم التي يُحب الآلهةُ سماعَها قبل أن يخلقوا بصمةً على خنصر أتثى
تعشقُ الظلال
كلُّ شىء معدُُ ، والشجرةٌ نفسُها تقفُ
كأنها ما أغوت أحدا ، كأنها ما عاشرت المشاهيرَ من الطيور
والمتعبين من أبناء الريح وجيل الزنادقة من قبيلة الشمس.
الشجرةُ نفسها تقفُ بين جمهور الفواكه الناعسه ،
والكرنفالُ يُنصبُ ملكا ويخلعه ، يُرسِل نبيا ويخذله ،
والعشبُ النحيلُ ذو الملمس الخشن يرقدُ في الصفوف الأخيرة
لا يُصفّق لأحد ، ولا يذكره أحد’’ في خطبة الوداع.
ربما كلُّ شىء مُعدّث .الكلُّ يذهب إلى محكمة الجمر ويعود أكثر ثقةً بالجحيم
العدلُ في الماء شىءُُ من صنوف الفضيحة ،
تتوضأ اللغةُ بنا ولا تُصلّي
تبلعُ سريعا لأنني أتّقى الليلَ بالخمر
الطبيعةُ لا تعرف الحِداد
ليس هنالك شىء’’ مُعَدُّ
كشف
وعندما يحنُّ الرجلُ يحدثُ أمر’’ ما في النسيج النفسيّ والعضويّ منه.
بل أيضا في المكان والزمان حوله ، شىء أقرب إلى الخيمياء القديمة ،
عندما يجتهد العالِمُ في استخراج الذهب من معادن خسيسةٍ ،
تجده مهووسا بالبحث عن شيءٍ هو في حكم العدم ،
أو تراه يهتبلُ الفرصةَ لأقتناص سريرته في سعيها إلى ما تبتغي ،
وهو في كلِّ الأحوال ناقص’’ ومعرض’’ للعطش.
يقولُ محمد المهدي المجذوب:
أريد أن أكون واحدا
مُبرّءا من الصباح والدياجر
ولل أكون حاجةً ساعيةً لآخر
وفي خَلق الانسان بشكله الآدمي المعروف فكرة’’ أصيلة ،
هى الحاجة والفقد. فاذا هو فرد يديه أحدث فراغا ،
وكذلك رجيله . أنظرُ إلى أصابع كفّه المتفرقه ، وفمه الفاغر بالنداء
كل ما فيه يدعو للإلتحام. تلك الجهاتُ وغيرها من الجسد
يقطنُها الحنانُ كما يقطنُ الليلُ في الليل.
أما إذا حنّت الأنثى فإنك واجد’’ سرا من أسرار الحرفين كافاً ونون
و((كُن)) هى مفتاح الوجود والفناء معا ، وهى سرُّ اللغة حينما تزدهي
بقوة الفعل وقدرة التكوين وإجابة الطلب.
وحنينُ الأنثى يقعُ بين الحرفين ، في موضع لا يخص الكاف
ولا ينتمي إلى النون وموقعه هذا زماني وليس مكانيا ، لأنه لا يُخْتبر
ولا يُقاس بأدوات المكان
كادت الأنثى أن تكون كلها حراما
لولا اللبْس في موضع حنينها بين الحرفين
والحنينُ لديها ضرب’’ من المرض – المرض اللطيف
يصيبها فينتقل إلى الجمادات والنبات والحيوان
من ثم الانسان من حولها ،
ويستشعر المعنيُّ وإن كان في حكم الأموات.
والحنان الذي نعْنيه هنا الدَّفقُ الابتدائي النقي ،
عندما يجاهدُ الطينُ لأن يغدو نارا ، والنارُ لأن تغدو طينا.
ذلك الحنان الغريب ، غير مدَّعِ ولا مبتذل ،
هو عند الأنثى يمنحها قدرة الاختراق والوصول وكشف سُدف الغيب
والنظر إلى ما بعد الظاهر ، بل يجعلها حاذقةً في حَبْك الحِيَل
وسُبل الامتلاك وورود بئر من تُحب ،
لأن الحنان عندها يبدأ مُهرجا وشيطانيا ،
إلى أن يبلغ رشده ويتوب اذا ما غدت أمّا ،
والحنان لدى الأم مشهود’’ ومعلوم وهو باب’’ أفضى بها إلى الجنة.
نسيج
النارُ!النارُ ستحرقُ أطراف نارِك
أصعدُ هاويةً من نشاذٍ وقلق ، أجرُّ قطيعا من التجاعيد تجترُّ ضجر الليلة الفائية
أمدُّ لساني للأغبياء من حفدة الغبار ، أبتلعُ كلمةً تساوي بالضبط ما يحدث حولنا
والشارع وقت ما ننشغلُ بتفاصيل صحبتنا ، يبدو طيّبا
والمغيب في انتظارنا ، كأنه لن يفعل الشفق إلا حين تكونين بجانبي
كأنما نزلتِ فجأةً من غصن رحيم.
أصعدُ هاويةً من سؤال وفَقْد
تتسللُ اقمارك الحانيةُ ضلال عتمتي ، ويُضاءُ رصيفُ الذكريات شيئا فشيئا ،
أعرفُ كم من الوقت مضى عليّ وأنا أحاور نجمةً عصيةً تقطنُ سماءَ الوهم مني
وأعرف كم من حقول للقطن صبغُتها بلونٍ لا يخص التجربة .. لا يخص الحقل
وأعرف كم أنا صريع’’ للهرب
كم أنا مريض’’ بك ، في الغياب والحضور...سيّان هذا الذي يكون
كم مضى من الليل وأنت تعتّقين هذا الصمت ،
كم مضى من التداعي وأنت تنشلين حروف العلة من اعترافك أمام كاهن البوح
كم مضى منك ،
وأنتِ في ملكوت هذا الهرب.
كشف
أولُ الحنان حاء’’ ونون.
الحاءُ عندي حرف’’ متطرف’’ من حروف الألم ،
هو صوتُه الذى يكذب ،
عكس الهاء التي تدّعي صلتها بالألم والتأوّه
لكنها تذهب لتدخل في صوت الضحك أيضا.
النونُ حرف’’ شهير .
وبين الحرفين صلة’’ شُبْهة’’ ،
اشتباه معنى الحنان نفسه وتفسير مقتضى أحواله.
نسيج
واشْرِقي
فيَّ الثياب العطوفهْ
فيَّ
بالمناقير تلِحُّ
سادرةً في سُمْرةٍ جائره
كلُّ ما فيكِ يركبُ رأسه
تطففين الفراقَ ، ولنا
نزهة’’ من غيوم اليدين
سأنفَقُ ربما في خلاءٍ قريبْ
فارفعي سرَّ جوعي
للجناب الشفيف من الطين ،
يرعى شجراً من الأسرار
اعودُ مرضاي فيكِ وأعلو
أزْهقُ عشرين آهةً في الطريق النحيل إلى القلب
تجفلُ شامة’’ لصق روحك
في ظلمة الثوب تدقّث
وادْخُلي في سُهادي
اُُدخلي نَوبتي
كشف – نسيج
الحنانُ أن تغيب .
الحنان في المغيب
ذات شفق ،
فضاء’’ يتهيج ،
يخلعُ ملابسه ويقصُّ الضفائر ،يلقي بعيدا بأظافره وقشرة رأسه .
ضفائرهُ المجدولةُ ، يلطِّخها بدمٍ ساخنٍ ويلوّحُ بها في فراغ .
على مقربةٍ ، تغلي قدور’’ ضخمة’’ من نحاس اجداده ويتصاعدُ البخار
الذي لا يفشي سر ذلك المحترق.
الآن السماءُ عارية’’ وعلى أُهبْة الرسم ،
على أُهبْة الحنان الذي مظهره الإرتباكُ ، وباطنه وحشة’’ وغربة
لها شكلُ صنارة الصيد ، تنغرز في النسيج الدقيق الرطب من لهاة الروح
وتسوقها على موجةٍ لا تعترف بقانون الطفو ،
فأنت الغريقُ لا محالة ، وأنت آخرُ صيحةٍ أطلقها آدمُ حين حاورته حواءُ .
بالدفء والرائحة المستحيلة ،
حينها فالحنان له وشائجُ لصيقة’’ بالتأتأة والفأفأة والحبْسة ،
أيضا الخرس ، لأنه يُلغي الكلام ويصيبُ الفردَ بالتّشتت ،
راميا باللغة وسائر علوم الاتصال إلى الأرض
واذا أُصيب احدهم بالحنان تجده لا يُحسن التصرف أو الإنصراف ،
إنما هو يتردّد في فناء الكلمة لا يدخلها ولا يخرج منها .
وإذا حَدَثَ وفتح اللهُ عليه بشيء من البيان
تسمعُ صوته كأنه آتٍ من غيهب سحيق ،
واذا أمعنتَ النظر في غور عينيه فإنك تحظى بمشهدٍ فريد ،
هو كيف ترفُّ الجفونُ والحواجب دونما سبب ،
بل قُل كيف تُحضّر الدموع في مقلة الكائن الحي .
والحنانُ حين يشتدُّ أسبابه ودواعيه ،
يقفُ حائلا والإفصاح ، عدوا لدودا والبيان
لذلك ، نحنُ لا نفهم لغة الطّير.